تل أبيب تصنع بطهران ما صنعه ويصنعه الحدّاد..
ما تتعرض له القوات الإيرانية وميليشياتها الطائفية في سورية من قصف يوميّ أو شِبه يوميّ وخاصة على الشريط الحدودي بين سورية والعراق يُمثِّل النهج الإسرائيلي والحالة التي لا يمكن لإسرائيل أن تتغاضى عما يحدث فيها أو أن تتغافل عنها تحت أي عنوان من العناوين.
فالمنطقة الممتدة من القائم في العراق مروراً بالبوكمال وحتى مدينة دير الزور على الضفة الغربية لنهر الفرات والتي تُسمَّى محلياً وجغرافياً بالبادية الشامية، والجهة المقابلة الضفة الشرقية لنهر الفرات تسمى "الجزيرة" والتي تسيطر عليها أمريكا وذراعها قوات سورية الديمقراطية، منطقة البادية الشامية تسيطر عليها إيران وميليشياتها وروسيا واسميّاً تسيطر معهما ميليشيات النظام، فقد باتت هذه المنطقة البادية الشامية وما يحدث فيها من تحرُّكات مريبة وتحشيدات للميليشيات الإيرانية تقع ضِمن المدى المجدي للرؤيا الإسرائيلية وباتت مرصودة على مدار الساعة سواء من أعين مَن ينقلون الأخبار لإسرائيل على الأرض مع كل تحرُّك لهذه الميليشيات من داخل الأراضي العراقية أو من قِبل عيون لإسرائيل من داخل الأراضي السورية، هذا التحرك لهذه الميليشيات وذخائرها وعلى طول هذا الخط مرصود وبشكل جيد ربما حتى قبل أن تتحرك هذه الميليشيات من أماكن انطلاقها، هذا في الرصد الأرضي، ولا ننسى كذلك الرصد الجوي للمسيرات التي تكاد لا تفارق سماء المنطقة لقوات التحالف الدولي التي لا يشك أحد بأن من هذه القوات قوات تعمل لصالح إسرائيل فعندما نقول القوات الأمريكية فهذا يعني أننا أمام قوات إسرائيلية ومخابراتها تعمل ضِمنها.
إسرائيل بقصفها اليومي أو شبه اليومي للميليشيات الإيرانية يأتي مع كل تحرك لهذه الميليشيات وهي أي -إسرائيل- تنطلق من منطلق واحد وهو أنه في السياسة ومصالح وأمن الدول لا يمكن أن تُترَك الأمور تحكمها الصدف حتى وإنْ كانت هذه الصدف من النادر أو من المستحيل حدوثها، فهذه هي العقيدة العسكرية الإسرائيلية ربما منذ نشأتها وحتى اليوم.
ربما تقاطعت أو لا تزال تتقاطع المصالح الإسرائيلية مع مصلحة إيران في بعض الأمور والتقتا وتلتقيان عند نقطة معينة مشتركة بينهما في سورية ولكن هذه المصالح لن تتقاطع في جميع النقاط وتبقى هناك نقاط وزوايا لا يمكن أن يلتقيا عندها مهما امتد زمنها وطولها، فإسرائيل مع إيران في هذا مثلهما كمثل الخطين المتوازيين قد يضيقان في نقطة معينة ولكن في نقاط ومسارات كثيرة يبتعدان.
فإسرائيل لا يمكن لها أن تترك دولة ما حتى وإنْ بدت أنها صديقتها بالتقاء مصالحهما في نقاط معينة فإن الالتقاء هذا لا يشفع للساسة وللعسكريين الإسرائيليين ألّا يعتبروها عدو المستقبل قَرُبَ هذا المستقبل أم بَعُدَ، وهذا ما يحكم علاقة طهران بتل أبيب، وهذا ما يبرر ما نشاهده من القصف المتكرر لميليشياتها سواء أكان هذا القصف على الأراضي السورية أم في الداخل الإيراني.
فقد علّمنا التاريخ القريب عقيدة إسرائيل، لا شك تذكرون أنه ومنذ البدايات الأولى لإنشاء مفاعل العراق النووي في منشأة التويثة القريب من بغداد عمدت إسرائيل في السابع من حزيران عام ١٩٨١ على قصف مفاعل تموز، وقتل فيه عدد من الجنود العراقيين وبعض من الخبراء الفرنسيين الذين كانوا يعملون فيه، فقد رأت إسرائيل التخلص منه مبكراً كي لا يكبر هذا الوليد ويسبب لها آلاماً مزمنة فبادرت إلى قصفه والتخلص منه إلى الأبد، وربما كانت نظريتها هذه في محلّها واستطاعت أن تبرهن على صحة نظريتها هذه، فقد رأينا كيف أن القوات العراقية بادرت إبّان غزوها للكويت صيف عام 1990 على قصف مدن إسرائيل بـ 39 صاروخ سكود، فلو لم تكن إسرائيل قد تعاملت وقصفت مفاعل تموز لقام العراق وبلا أدنى شك بقصف إسرائيل بصواريخ محملة برؤوس نووية هذا في العراق. أما في سورية فقد قامت إسرائيل وَفْق نظريتها هذه بقصف المفاعل النووي السوري في محافظة دير الزور في قرية الكبر عام 2007 في السادس من أيلول، والتي أسمتها "عملية البستان" أو عملية "خارج الصندوق" نفذتها طائراتF15 وF 16 وقد أعلن فيها عن مقتل 10 من عمال كوريين شماليين، فإسرائيل قصفت ودمرت المفاعل النووي السوري على الرغم من أنها تعرف أنه لا يمكن لنظام وضعته وباركته ويعتبر حارساً لحدودها الشمالية أن يقوم بشيء هو ضد الوجود الإسرائيلي، ولكن هذه هي إسرائيل التي لا يمكن لها أن تترك أي شيء تحكمه الصدف وتقلّب القلوب فيه والمصالح، ولنا في خروج الفصائل الفلسطينية من لبنان عام 1982 نموذج آخر، ولكن هذه المرة على أشخاص وليست منشآت فبعد أن نقلت القيادة الفلسطينية مقراتها إلى تونس بادرت إسرائيل إلى اغتيال قيادييها يأتي على رأسهم خليل الوزير أبو جهاد في السادس عشر من نيسان عام ١٩٨٨ لأنها استشعرت منه خطرا، خطرا حتى ولو كان يفصله عنها آلاف من الكيلومترات، الأمثلة طويلة وكثيرة يضيق المجال عن ذكرهم جميعاً كل هذا يأتي ضِمن العقيدة العسكرية والأمنية الحساسة التي تحكم إسرائيل وقياداتها التي لا يمكن لها أن تترك الأمور تسير بعيدا عن هاجسها الأمني والعسكري وعليه تقرر ما يجب القيام به.
فما نراه من القصف الإسرائيلي على مواقع الميليشيات الإيرانية وقطع طرق الإمداد عن المواقع الإيرانية في المناطق البعيدة عنها كما الشرق السوري والقريبة منها كالجنوب السوري الشمالي لإسرائيل إنما هو القصف عند المنبع لمنع وصول الإمدادات لتقترب من حدودها، فإسرائيل لا يمكن أن تقبل وجود ميليشيات إيرانية متاخمة لحدودها ولا تريد أن تعيد تجربة حزب الله اللبناني، صحيح أن حزب الله لا يمكن لنا أن نقول إنه عدو لإسرائيل، ولكن مع هذا كله لا يمكن لإسرائيل بهواجسها الأمنية والعسكرية أن تتصور أنه صديق.
يصب في هذا الاتجاه أن إسرائيل لا يمكن لها أن تتغاضى من مسألة امتلاك إيران للنووي وستسعى جاهدة -ولو بشكل إفرادي وبعيداً عن أمريكا- لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي يجعل من إسرائيل تضمن ولعقود قادمة تفوُّقها العسكري والتكنولوجي في المنطقة ومن أجل هذا فقد اغتالت منذ سنتين في وسط طهران عالِم الذرة محسن فخري زادة، والذي يوصف بأنه أبو القنبلة النووية الإيرانية ولا ننسى العملية الاستخباراتية التي قام بها الموساد منذ ثلاث سنوات أو تزيد قليلاً عندما قام الموساد بسرقة الأرشيف النووي الإيراني بعملية استخباراتية دقيقة تكلم عنها منذ أيام قليلة وزير الخارجية الأمريكي السابق بومبيو.
مصالح إيران مع إسرائيل التقت وستلتقيان ربما، فإن اتفقتا والتقتا فإن إسرائيل لا يمكن لها أن تلتقي مع إيران وستصطدم معها إنْ عاجلاً أو آجلاً في أمرين اثنين، أولاهما وجود الميليشيات الإيرانية على حدودها والأمر الثاني هو أن تمتلك إيران أسلحة نووية يمكنها أن تستعملها ضدها في يوم من الأيام، فإسرائيل حتى هذا اليوم الذي هو من الأيام البعيدة هو قريب في قاموسها وتعمل على أن تلغيه نهائياً من أوقاتها"روزنامتها" ، ولا يمكنها أن تتخيله فلذلك كنا قد رأينا ما تقوم به بقصف إيران إنْ في داخل سورية أو حتى في عمق الأراضي الإيرانية، كما حدث بالأمس عندما قصفت إسرائيل مصنعاً للأسلحة والمسيرات وللذخائر في مدينة أصفهان، وكذلك قصفها لرتل من الشاحنات تجاوز عددها حسب مواقع الـ 25 شاحنة دخلت الأراضي السورية للتو من العراق قرب مدينة البوكمال السورية المحاذية للشريط الحدودي مع العراق وجعلت من هذا الرتل أثراً بعد عين.
القادم من الأيام سوف يكشف ويظهر أكثر من ذي قبل هذه الإستراتيجية والعقيدة العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي لم -ولن- تحيد عنها إسرائيل، فعدوك -حسب هذه العقيدة- احذره مرة، أما إيران التي يراها البعض أنها صديقة لإسرائيل فهذه الأخيرة تحذرها ألف مرة، وما نراه وما تقوم به إسرائيل بقصفها لميليشيات إيران إنْ في سورية أو في الداخل الإيراني لهو من نتائج هذا الحذر الزائد عن الإلف.