بدايات مرهقة لكبار السنّ السوريين في تركيا

بدايات مرهقة لكبار السنّ السوريين في تركيا

 

نداء بوست- تقارير وتحقيقات- آلاء عوض

بلهجته الإدلبية المحببة والقريبة من القلب يصرخ العم أبو عبد الله (72 عاماً) من أعماق جوارحه "وبعدين.. وبعدين يا عين عمك"، موجّهاً كلامه لي بحُرقة، ومتسائلاً عن أُفُقِ انتهاء المأساة السورية التي كان له منها نصيب وافر، فبعد أهوال الحرب وفظائعها وسردية التغريبة السورية جاءت وفاة زوجته بكورونا منذ نحو عام فتفاقمت معاناته وتعاظمت وحدته وازداد حنينه إلى إدلب.

يعيش أبو عبد الله في أحد أحياء إسطنبول (ميرتر) مع ابنه الوحيد عبد الله (23 عاماً) الذي يعمل بائع ألبسة ويعيل والده، لكن الشاب اليافع يغيب عن المنزل ساعاتٍ طويلة بسبب عمله وأحياناً يواعد أصدقاءه بعد انتهاء العمل فيبقى العم أبو عبد الله وحده معظم الليل والنهار.

يحضّر فطوره في الصباح لكن نفسه تأبى عنه، ويشعر أن لا مغزى من حياته لماذا أصلاً يأكل ويشرب ليطيل عمره ويزيد فترة بقائه وحيداً بين أربعة جدران! ويتلعثم إذا ما طرق عليه سائلٌ الباب أو حضرت صاحبة المنزل لتأخذ الإيجار، ويخشى من أن ترفعه فلا يكون بمقدور مرتب "عبد الله" تحمُّله.

لأبي عبد الله ابنتان إحداهما تركت تركيا وعادت إلى إدلب بعد أن عجز زوجها الطبيب عن إيجاد عمل، أما الثانية فتقطن في إسطنبول لكن في منطقة بعيدة عن والدها ولا تستطيع زيارته كثيراً بحكم انهماكها هي الأخرى في العمل وتربية أبنائها الخمسة.

كان لأبي عبد الله دكان في مدينته جسر الشغور يعتاش منه، لم يكن بأقصى درجات سعادته أو ميسورًا كفاية كما يعبّر، ولم يتمكن من تحقيق أحلام الشباب، لكنه دفء الأسرة والأصدقاء كان له تأثير مسكّن كما يعتقد، أما الآن فهو يعيش حالة حنين مزمنة إلى ذلك المسكّن ويحنّ أيضاً إلى أصدقائه الذين كانوا يرتادون محلّه بانتظام فيتبادلون الأحاديث اليومية ويتجادلون بالسياسة التي من الواضح أنه إلى الآن يهواها، ويبرهن على ذلك حرصه على متابعة نشرات الأخبار وتوجيهه الشتائم لبشار الأسد وفلاديمير بوتين بعد كل صلاة، أما دعاؤه الأنقى فيكون لأبنائه فيبكي بغزارة عندما يدعو الله لهم بأيام بيضاء لا تشبه أيامه.

تنعكس الأوضاع النفسية الصعبة للاجئين للكبار في السن على صحتهم الجسدية، وتُضاعف عزلتهم الاجتماعية ويعانون من اضطرابات عقلية سببها الوحدة وشعورهم بعدم جدوى بقائهم على قَيْد الحياة، ذلك لابتعادهم عن أدوارهم الاجتماعية كأجداد لهم مكانة وتأثير، وانسلاخهم عن محيطهم وأصدقائهم وجيرانهم، وصعوبة تكوين علاقات أخرى في تركيا، ناهيك عن إحساسهم بأنهم عالة على أولادهم الذين يعانون أيضاً ظروفاً معيشيةً واقتصاديةً صعبةً.

يقدّر عدد اللاجئين السوريين في تركيا ممّن تتراوح أعمارهم بين 60 إلى 89 عاماً بـ 120 ألفاً من أصل 3.7 مليون لاجئ وفقَ بيانات دائرة الهجرة التركية. وأشارت منظمة مساعدة المُسنِّين الدولية "HelpAge" إلى أن 77% من اللاجئين السوريين بالمجمل ممن تزيد أعمارهم عن 60 عاماً لديهم مشكلات خاصة ترتبط بالحركة والتغذية والرعاية الصحية.

لم يتبقَّ للعم أبو عبد الله إلا ساعات الانتظار والحياة الروتينية الباردة والمملة التي تلقي بظلالها كل يوم على صحته فيشعر بأن نهايته قد اقتربت وبأنه مشتاق لزوجته ويودّ اللحاق بها.

 

العودة إلى الصفر

أما أبو نهى (65 عاماً) فهو من أهالي جوبر بريف دمشق ويعيش مع زوجته وابنتيه في حي (زيتون بورنو) بإسطنبول فقد كانت تجربته في تركيا صعبة جداً وكلّفته الكثير، باع أبو نهى كل ما يملك قبل أن يسافر إلى تركيا محلا ألبسة في جوبر ومنزله، وظنّ أنه بإمكانه أن يؤسس في تركيا مشروعاً صغيراً يؤمّن له ولعائلته حياة كريمة.

لكن ظنونه خابت وعاد إلى الصفر، يقول لـ "نداء بوست": "رجعت عالحديدة"، فبعد أن دخل شراكة مع أحد معارفه القدامى بمشروع لصناعة سجاد الصلاة وصناديق فاخرة للقرآن الكريم، بقصد تصديرها إلى دول عربية أخرى وسخّر كل المال الذي لديه في تمويل المشروع، مُني بعملية نصب واحتيال جرت بالتوافق مع شريكه، وخسر كل ما يملك.

وهو الآن يستدين من أقاربه وأقارب زوجته لتيسير أمورهم، في بعض الأحيان يتسنّى له عمل حرّ في ورشات البناء لكن طبيعة العمل لا تتناسب مع عمره وظروفه الصحية فضلاً عن أجرها الزهيد، وتحاول ابنته نهى وهي متزوجة ولديها طفلان وزوجها يعيش في لبنان أن تعمل بتسويق منتجات التجميل عَبْر الإنترنت لمساعدة والدها.

يتحدّث أبو نهى بمنطق المغلوب تارة والصابر تارة أخرى مُقارِناً وضعه بعشرات الآلاف من السوريين الذين خسروا فلذات أكبادهم ليس أموالهم وحَسْبُ، ويطلب من زوجته أن تسامحه لأنه كان السبب بخسارتها ما تملك من ذهب لتدعم مشروعه الذي ذهب أدراج الرياح.

أشارت دراسة لـ (Journal Of Refugee Studies) صدرت في أيلول الماضي، إلى أن المسنين السوريين في تركيا وضعهم أفضل كونهم في بيئة مشابهة، غير أن حواجز الاتصال والفقر والتمييز والبطالة والصدمات التي عاشوها في بلادهم تحول دون اندماجهم.

 

النساء وضعهن أفضل!

وفيما يكثر الحديث عن الأدوار الاجتماعية والتمييز الذي يطاول المرأة على أساس النوع غير أن الوضع يبدو مختلفاً في حالة المسنين.

ففي الوقت الذي يعاني فيه معظم الرجال المسنين في تركيا من العزلة وتَلاشِي المكانة والدور الاجتماعي، تعيش المرأة المُسِنّة بحالة أفضل نسبياً، بسبب استمرارها بالقيام بأعمالها المعتادة كـ "ربّة منزل"، وفقَ الاختصاصية الاجتماعية هيفاء محمد، التي أضافت لـ"نداء بوست": "تُزاوِل المرأة المُسِنّة أعمالها بشكل يومي من الذهاب للتسوق وتحضير الطعام للأسرة بالإضافة لأعمالها المنزلية اليومية التي تُبقيها على قَيْد النشاط والأمل".

 

 

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد