اللجوء السوري في لبنان؛ فوضى مقصودة وابتزاز
كما لم يكن نظام الأسد مستعداً لانتفاضة سورية، لم تكن السلطة اللبنانية المرتهنة لحزب الله والمرتبطة بنظام دمشق، مستعدةً لتلقي فيضٍ مِن السوريين الفارّين بأرواحهم مِن حمم الصواريخ والبراميل الأسدية وإجرام الميليشيات الحزبلاتية–الإيرانية، التي احتلت بيوتهم وبلداتهم في سورية. ونظراً للانقسام السياسي الحاصل داخل المنظومة السياسية اللبنانية الحاكمة، فقد حال حزب الله والتيار العوني والقومي السوري، المتحالفان مع منظومة الاستبداد الأسدية، دون تنظيم هذا التواجد السوري الطارئ الداهم.
الفوضى المتعمَّدة
خَلَط ذلك التواجد القسري الفوضوي للاجئ السوري الهارب بروحه من جحيم إجرام منظومة الاستبداد بالوجود السوري الداعم للأسد وحزب الله، فتراكمت كُتَلٌ بشرية سوريةٌ زادت مِن رزوح لبنان تحت فساد إداري واستباحة لاقتصاد البلد وبنوكه وموارده، وفقرٍ ينهش المجتمع اللبناني، ورعبٍ من انتشار السلاح وتسلُّط حامله على باقي المكونات اللبنانية.
تزايد عدد اللاجئين السوريين في لبنان، واشتدت معاناتهم، وتحوّلوا إلى "مكسر عصا". تفاقم الوضع المعيشي اللبناني، وزاد الجشع والفساد واستغلال وضعهم في بيئة تخنقها "بلطجية" حزب الله والجهات المتحالفة معه؛ وخاصة أن اللاجئين هم الحلقة الأضعف التي لا ظهر لها ولا منصف إلا مَن رحم ربي.
إذا اختفت الكهرباء، أو تراكمت القمامة، أو جفت البنوك، أو قلّ الخبز وفرص العمل، أو تدهور حال التعليم، أو ارتفع منسوب الجريمة، أو جنّ سعر الدولار وتدهور سعر الليرة اللبنانية؛ تجد مَن يوجّه سهامه ويرمي بأسماله على اللاجئ السوري. حتى في الأمور الكبيرة كالعجز عن إيجاد رئيس جمهورية، أو تشكيل وزارة، أو اضطراب مؤسسة؛ لا بد من أن يكون لهذا اللاجئ نصيبٌ من الرجم.
سياق تفاقم الأزمة
تتصاعد أزمة اللاجئين السوريين في لبنان في هذا الوقت في ظل سياق "مؤتمر بروكسل للمانحين"، والذي ينتظر منه الفاسدون المفسدون مئات ملايين الدولارات المخصصة لدعم اللاجئين كي ينهبوها، متصورين أنهم بقدر ما وتّروا الوضع وأزّموه، بقدر ما ازدادت الحصة.
تأتي أيضاً في ظل موجة التطبيع مع منظومة الاستبداد التي تذَرَّع أبطالها باهتمامهم بالجانب الإنساني للقضية السورية، فجعلوا عودة اللاجئين مدخلاً لتسللهم. والمفارقة أن مَن يطبعون معه لا يريد تلك العودة.
والثالثة تكمن بمأزومية الأطراف المنخرطة في القضية السورية، إذ يهمها أن تحرف الأنظار عن فشلها بإيجاد حل أو مخرج لنفسها؛ فروسيا يغرقها المستنقع الأوكراني، وإيران تتوتر داخلياً ويشغلها من يريد إبعادها عن الفريسة السورية، وتركيا وانشغالها بالانتخابات، ومنظومة الاستبداد والانشغال بالكبتاغون، وقيصر والعقوبات ومستلزمات "إعلان النصر النهائي" على الشعب السوري.
والسياق الرابع والأهم أزمة السلطة في لبنان من فراغ سياسي وفساد ووضع اقتصادي متهتك إلى غليان شعب وصرخات بسبب النهب والسرقات والاستبداد الحزبلاتي، والبحث عن مشجب لتعليق الأسمال.
مخاوف ومسؤوليات
هناك مخاوف لبنانية من أن يتحول اللجوء السوري إلى ما يشبه اللجوء الفلسطيني. وهناك خشية من الخلل الديموغرافي بحكم أن كل اللاجئين من مذهب ديني واحد. وفي المقلب الآخر يخشى السوريون اللاجئون بأن المطلوب تصفية "حق العودة"، وذلك للإبقاء على احتلال حزب الله بيوت اللاجئين السوريين في سورية.
وفي المسؤولية القانونية، لا يمكن تنصل الدولة اللبنانية من مسؤوليتها عن دخول ميليشيات حزب الله إلى سورية وقيامها بأعمال عسكرية من قتل وتدمير وتشريد؛ فعبور تلك الميليشيات إلى سورية كان من خلال الحدود التي يسيطر عليها الأمن والجيش اللبناني؛ فهم لم يتسللوا خلسة، بل بأسلحة متوسطة وثقيلة ظاهرة على حواجز وحدود لبنانية. ورغم حديث لبنان عن "النأي بالنفس" عن الصراع في سورية، إلا أن بعض قصف الزبداني وبلودان وريف حمص والقلمون وريف دمشق الغربي أتى مِن داخل الحدود اللبنانية- ومن احتل ما تبقى من بيوت هؤلاء اللاجئين كان حزب الله وميليشياته التي تحمل الهوية اللبنانية. ومن جانب آخر، فإن المسؤول عن دخول قادمين سوريين مستثمرين واقتصاديين وموالين للنظام كان جهاز الأمن اللبناني التابع للجيش والمسيطر على الحدود والمعابر الرسمية والتي تدير معابر تهريب البشر والأعضاء والمخدرات.
عراقيل وعقابيل وحلول مقترحة
لا يستطيع مَن هرب من نار منظومة الاستبداد العودة، لأن بيته إما مدمرٌ أو محتلٌ من قبل ميليشيات لبنانية. وقانونياً، لا تستطيع رمي لاجئ إلى البلد الذي اقتُلِع منه بناءً على المادة ١٤ من لائحة حقوق الإنسان.
من جانب آخر، هناك جملة من العقابيل المحتملة لأزمة اللاجئين تتمثل باستمرار العزلة اللبنانية من المؤسسات الاقتصادية والمالية والمانحة العالمية؛ والتي تنتظر كشوفات لأموال أتت كدعم للبنان وللاجئين هدرتها وزارات لبنانية؛ حيث ذهب معظمها لجيوب فاسدين في السلطة وعلى رأسهم ممثلُو عون وحزب الله. فالتحقيق بمصير مئات ملايين الدولارات التي وردت وتبخرت، قادم حتماً.
وفي الحلول، كثيرون اقترحوا ضبط مسألة اللجوء وإيجاد حلول للأزمات المحيطة بها. إحدى المؤسسات المدنية القانونية "مؤسسة لايف" توجّهت يوماً لحكومة ميقاتي طالبة إقامة مخيمات في أراضٍ غير مستصلحة تدفع الأمم المتحدة أجرتها وتنشئ بنى تحتية خدمية، بحيث ينتظم وضع اللاجئين، وتستفيد الدولة اللبنانية من تلك البنى والدعم القادم من الهيئة العليا لشؤون اللاجئين؛ فكان الرد بالرفض، ليثبُت أن حالة الفوضى كانت متعَمَدة ومطلوبة، لاستخدام هذه الورقة "مكبّاً" لأسمال الفساد والجشع والسرقة والتخريب لمؤسسات ومنظومات الدولة؛ وليتبيَّن أنه بمجيء عون، استفاد وزراؤه وحلفاؤهم من حزب الله من تلك الفوضى مستثمرين ذلك اقتصادياً وأمنياً وسياسياً ويرمون عليه فسادهم وفشلهم وتخريبهم للدولة.
يكمن الحل المحتمل بتنظيم حالة اللجوء والفصل بينها وبين الوجود السوري في لبنان؛ وفرز ذاك الذي هرب بروحه من جحيم نظام الأسد، ومواطنه المرتبط بإرادته أو مداراةً بذلك النظام وبحزب الله، أو ذاك المحايد تجاههما الموجود لأسباب معيشية أو اقتصادية أو اجتماعية. ويمكن الحصول على ذلك التوثيق لمختلف الحالات عبر سجلات من اشترك "بانتخابات" الأسد في سفارته في لبنان، وسجلات الأمن العام للذي يعبر الحدود دون إشكاليات.
تلك القضايا الإجرائية الهامة تتم بتشكيل لجنة أو "خلية أزمة" مكوّنة من /الأمن العام/، كجهة رسمية؛ وممثلين للهيئة الأممية العليا للاجئين؛ ومن المجتمع المدني، كجهة شعبية لبنانية محايدة تعبّر عن رأي وموقف اللبنانيين وتراقب العملية. وهذا ما اقترحه الدكتور المحامي اللبناني نبيل الحلبي، رئيس مؤسسة لايف المختصة بقضايا اللاجئين. تشكيل هكذا خلية أزمة مكسب للبنان وليس خسارة، حيث عبرها يمكن أن تتحوّل الأزمة إلى مكسب على الأقل على الصعيد المادي.
أخيراً، لا بد أن يترافق ذلك مع توقف جهات لبنانية عن إلهاء اللبنانيين عن واقعهم المرير وتجييش بعضهم وبرمجتهم لصب جام غضبهم على هذه الحلقة المستضعفة "اللاجئين السوريين"، ورمي اللوم عليهم كمتسبب بمصاب لبنان؛ فكما هو اللاجئ السوري ضحية الفساد والاستبداد والتشريد، كذلك أخوه اللبناني.