البعث في عيده الـ (….)

البعث في عيده الـ (….)

في تزاحُم الأحداث حول القضية السورية من عقابيل الزلزال؛ إلى حمّى التطبيع؛ إلى تبعثر سورية؛ إلى مأزوميات المنخرطين فيها، وتضارب مصالحهم، وتصفيات مطامعهم، على حساب المآسي السورية؛ إلى محاولاتهم إعادة تكرير منظومة ما شهد التاريخ كإجرامها؛ شهدنا قبل أيام احتفال "البعث"- مَطِيَّةِ منظومة الاستبداد- يحتفل بعيده السادس والسبعين.

البعث مفردة جذّابة لغوياً ودلالياً وحتى دينياً. اختار له مَن أسّسَه شعارات تدغدغ طموح جماهير خرجت لتوّها من نِير احتلالات مديدة وأُخرى قصيرة. اعتبر مؤسسوه أهدافه "ثالوثاً مقدساً "؛ صدّقته وآمنت به نسبة لا بأس بها من الجماهير؛ ولكن تناوبَ على البعث مَن نفّر جماهير الحزب والجماهير الأوسع من ذلك "المقدس"، وكرّهَهُمْ به؛ فكانت الارتدادات والنكسات بكل الاتجاهات؛ وكان الدمار والخيبة والتخلف والظلم والاستبداد.

ربما كان ذلك هو المطلوب منه؛ بحيث يصبح مآل طلب "الحرية"، الاعتقال أو تدمير إنسانية الإنسان؛ والسعي "للوحدة"، طريقاً إلى التشرذم وضياع أي حلم نهضوي يرفع مقام الأمة؛ ونشدان "الاشتركية"، سواد الظلم والاستبداد والفساد والفقر.

عاش السوريون يحلمون بالوحدة؛ فحوّلها القائمون عليه إلى فرقة وصِدام، حتى ضِمنَ الحزب الواحد في بلدين عربيين متجاورين؛ لتصل الأمور بسلطةٍ سوريةٍ أن تكتب على جواز سفر مواطنها (كل بلدان العالم، إلا العراق). ولو استطاعت تلك السلطة أن تنسف وحدة البيت أو الأسرة السورية الواحدة، لما توانت عن ذلك؛ وللأسف أفلحت بفعلتها هذه أحياناً. وللعلم، مع انطلاق ثورة سورية 2011، كانت الشعارات الأكره والأخطر على قَتَلة منظومة الاستبداد: { واحد واحد واحد- الشعب السوري واحد} و {حرية حرية حرية} و{ يسقط الاستبداد والفساد}.

تفنّن حافظ الأسد بتدمير وحدة العرب، فأقنع السوريين بـ "التضامن العربي" /….نظراً للظروف/؛ وسعى بكل ما يستطيع أن يكون هذا "التضامن" حالة من المؤامراتية بين بلد عربي وآخر؛ ليصبح العربي آمناً جانب الأجنبي أكثر من أمانه جانب أخيه. عبر "تضامنه العربي"، هتك الأسد كرامة لبنان، مُنفّذاً تعليمات إسرائيلية- أمريكية، فاتحاً الطريق بدايةً أمام المسؤول "البعثي" الآخر ليغزو الكويت، وليتابعها هو ذاته بتآمُر مع إيران الفارسية لتدمير العراق، وليستنزف الأمة ويفتح أبوابها خراباً لكل المستبيحين. وكان أول مسيرته التدميرية لهذه الأمة قد أسهم عبر "لجنته العسكرية" بإعدام وحدة مصر وسورية، وابتدع بعثه الخاص به عبر خلق سلطة عميقه تحوّلَ من خلالها إلى شبه إله مهمته إعدام الوحدة والحرية والإنسانية في سورية ومحيطها العربي.

باسم الوحدة تبعثر ما كان يُسمى "الوطن العربي"، وتم مسخه سياسياً، وأضحى بلا حول أو قوة أو إرادة. باسم الحرية والتحرير، فلسطين لا تزال مغتصبة، والجولان يقايض عليها رب البعث الجديد "الابن" ليبقى في السلطة أبدياً. وباسم الحرية، تم إعدام الحياة السورية، وليس فقط الحرية السورية. وباسم الاشتراكية، أصبح خط الفقر الطبيعي أمنية، والخروج من الوطن أقصى الطموحات.

لم يكن للبعث قيمة تُذكر في الدولة الأسدية إلا بما يكرّس سلطة الأسد المطلقة؛ فكان المطية الأساس في تنفيذ الاستبداد والإجرام. نصّب الأسد البعث قائداً للدولة والمجتمع في دستوره، ليكون بشخصه الحاكم المطلق "دستورياً"، والمتحكم بالحياة السورية اجتماعياً وثقافياً وتعليمياً وتربوياً ونفسياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً؛ ولتصبح حياة سورية وأرواح أهلها ومصيرهم بيده حصرياً؛ والكل منفّذ مطيع؛ وإذا فكّر أو اجتهد أحد، فمصيره الإلغاء. فهو الصانع الأول والمقرر النهائي لكل منحى من مناحي الحياة السورية.

في العقد الماضي، باسم البعث، قتل جيش "حماة الديار" العقائدي شعب سورية. وباسمه شهدنا قتالاً بينيّاً لتنتشر وتتكرّس مقولته بأن هناك حرباً أهلية في سورية، وليس ثورة على الظلم والقهر والاستبداد. وهذا مطابق تماماً لما تمّ في عهد الأب، حيث باسمه مهرت قيادة البعث بحافرها دخول الأسد الأب إلى لبنان، ليُجْهِزَ على المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية؛ وباسمه حمى "حدود" الكيان الصهيوني الشمالية في لبنان والجولان، كي يمنحه الصهاينة وأعوانهم سلطةً أبدية وراثية محصنة في سورية.

أخيراً، وبحكم المراهنة على جوهر الإنسان السوري الذي يحمل جينات أهل "مهد الحضارات" و"منزل الديانات" و"فيليب العربي" و"جوليا دومنا" وأحرار سورية والآباء المؤسسين للحرية والاستقلال، وبحكم الثقة بقدراتهم الكامنة لا بد لآلاف السوريين الذين لا زالوا على قيود وسجلّات هذا "الحزب القائد" المسكين في عيد "بعثهم" أن يدركوا أن حزبهم الغائب- الحاضر هذا، شاهد زُور وأداة قمع وإذلال لذبح سورية وأهلها؛ وهو الشمّاعة التي عُلّقت عليها كل أسمال الفساد والإفساد والعبث بمصير البلاد والعباد؛ وشاهد الزُّور على أول رصاصةٍ أطلقها سوري على سوري، وعلى استخدام الجيش "العقائدي" في قمع وقتل واعتقال وتشريد "أهله". وعلى السوريين عامة أن يدركوا هذه الحقائق ويساهموا بالصحوة. طبيعي أن يستهين الآخرون بالقضية السورية، ويسعوا للتطبيع مع قاتل السوريين. ولكن كل هذا الانكشاف للجميع لا بد أن يولّد صحوة تخلّص سورية من كل هذا الوباء، وتنهي مملكة الخوف وتبني جمهورية الحرية للجميع.

 

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد