إيران والصين تسارعان لملء الفراغ الأمريكي في الشرق الأوسط

إيران والصين تسارعان لملء الفراغ الأمريكي في الشرق الأوسط

في عام 2020، أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتفاقات أبراهام التي تطبّع العلاقات بين إسرائيل ودولتين عربيتين (الإمارات والبحرين) باعتبارها "بزوغاً لفجر شرق أوسط جديد".

هو كان محقّاً، ولكن ليس بالطريقة التي قصدها، فمن المرجح أن ينظر المؤرخون إلى تلك الاتفاقات على أنها واحدة من أُولى العلامات على ظهور نظام "ما بعد أمريكي" في الشرق الأوسط.

بينما لعبت واشنطن دوراً رئيسياً في التوسط في اتفاقيات أبراهام، كان جزءاً من الزخم لتوقيعها هو الإدراك العربي المتزايد بأن قوة الولايات المتحدة آخِذة في التضاؤل وأن الدول العربية ستضطر إلى اتخاذ ترتيباتها الخاصة مع أقوى الدول في المنطقة. وإسرائيل واحدة من تلك الدول، كما هو حال إيران. ومن هنا جاءت الصفقة التي توصلت إليها السعودية في آذار/ مارس الماضي، مما أثار استياء إسرائيل، وأعادت العلاقات الدبلوماسية مع إيران.

يمكن أن يمهد ذلك الطريق للسلام في اليمن، حيث يخوض السعوديون حرباً وحشية ضد الحوثيين المدعومين من إيران.

هذا الدافع نفسه لاستيعاب إيران يبدو واضحاً في جهود الدول العربية لإنهاء عزلة النظام السوري، حليف إيران، على الرغم من جرائم الحرب المروعة التي يرتكبها بشار الأسد.

لقد أعادت الإمارات بالفعل فتح سفارتها في دمشق، وذهب وزير الخارجية السعودي إلى هناك في نيسان/ إبريل في أول زيارة علنية لمسؤول سعودي رفيع المستوى منذ اندلاع الحرب.

وقد عاد النظام السوري يوم الأحد إلى جامعة الدول العربية بعد 12 عاماً من تجميد عضويته.

زعمت إدارة بايدن أنها غير مهتمة بدور الصين في التوسط في التقارب "السعودي الإيراني".

ومن الصعب نسج المعلومات الاستخبارية الأمريكية بأن الصين تبني منشأة عسكرية في الإمارات، أحد أقرب حلفاء أمريكا في المنطقة.

لن يتم تجاوُز الولايات المتحدة، التي لا يزال لديها أكثر من 34000 جندي في الشرق الأوسط، عسكرياً من قِبل الصين في أي وقت قريب، ولكن قد يتعين على الأفراد العسكريين الأمريكيين تعلُّم التعايش مع القوات الصينية، كما يفعلون مسبقاً في جيبوتي.

وقال فالي نصر، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في مدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة: "يقولون في الولايات المتحدة إنه لا يزال لدينا كل هذه القوات والقواعد، ولكن بالنسبة للسعودية والإمارات، فإن السؤال ليس ما إذا كان هناك قوات وقواعد وإنما حول ما إذا كان الأمريكيون على استعداد لاستخدامها".

الجواب بالنسبة لتلك الدول العربية هو أن أمريكا ليست على استعداد لاستخدام تلك القواعد والقوات الموجودة هناك بطريقة تزيينية بحتة.

ولقد تسبب هذا الاعتقاد بالتأكيد في حدوث تحوُّل كبير".

لا ينبغي أن يصدم صانعو السياسة الأمريكيون من تراجُع النفوذ الأمريكي: إنه نتيجة مباشرة للسياسات التي اتبعها آخِر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة.

فمنذ أن تحوّلت غزوات العراق وأفغانستان إلى مستنقعات مكلفة، سعى خلفاء الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى إخراج الولايات المتحدة من "الحروب الأبدية" - وتجنب التورّط في حروب جديدة.

وقد أعلن الرئيس باراك أوباما "إعادة التوازن" إلى آسيا، فقام بسحب القوات الأمريكية من العراق قبل إعادتها لقتال تنظيم داعش.

وقد رفض التدخل في الحرب السورية أو الرد على التدخل العسكري الروسي، وتفاوض على اتفاق نووي عام 2015 مع إيران رغم اعتراضات إسرائيل ودول الخليج العربية.

ففي مقابلة مع مجلة "ذا أتلانتيك" عام 2016، دعا السعوديين والإيرانيين إلى "مشاركة الجوار وإقامة نوع من السلام البارد"، وهذا بالضبط ما يفعلونه الآن.

وقد احتضن ترامب، كرئيس، حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة من دول الخليج العربي أكثر مما فعل أوباما، لكنه لم يقدم لهم أي خدمة بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في عام 2018.

ووفقاً لمسؤول كبير في وزارة الدفاع، فإنه يمكن لإيران أن تنتج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية في 12 يوماً فقط.

وقد حاول ترامب أيضاً سحب جميع القوات الأمريكية من سورية وتفاوض على صفقة من جانب واحد للخروج من أفغانستان.

والأهم من ذلك من وجهة نظر دول الخليج العربية، هو رفض ترامب الرد على هجوم شنته إيران عام 2019 بالصواريخ والطائرات المسيرة على منشأتين نفطيتين سعوديتين رئيسيتين، مما أدى إلى خفض إنتاج النفط السعودي مؤقتاً بنسبة 50%.

يقول المبعوث الأمريكي المخضرم آرون ديفيد ميللر: "أقنع فشلُنا في الرد السعوديين بأننا لم نَعُدْ حليفاً موثوقاً به".

يمكن تتبُّع هجمات أيلول/ سبتمبر عام 2019 وصولاً إلى تطبيع السعودية في آذار/ مارس 2023 للعلاقات مع إيران.

استمر الرئيس بايدن، الذي يركز بشكل مفهوم على مواجهة العدوان الروسي في أوكرانيا وصعود الصين، في اتجاه فكّ ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط بينما يتظاهر بأن ذلك لا يحدث.

وخلال زيارة للمنطقة العام الماضي، قال: "لن ننسحب لترك فراغ تملؤه الصين أو روسيا أو إيران. وقال: إن الولايات المتحدة لن تغادر"، لكن تصرفات بايدن تتعارض مع أقواله.

لقد سحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، مما أدى إلى استيلاء طالبان على السلطة، وبالكاد ردّ على الهجمات المدعومة من إيران على القواعد الأمريكية في سورية، أو على الاختراق النووي لإيران أو على الدور المتزايد لإيران كمورد أسلحة للحرب الروسية في أوكرانيا.

كما أنه لم ينجح في إقناع السعودية بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل خاصة بعد تحميل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المسؤولية عن مقتل الصحافي جمال خاشقجي وقطع الدعم الأمريكي للحرب السعودية في اليمن وهذا ما جعل علاقة بايدن مع الحاكم الفعلي للسعودية علاقة متردية.

قال جوناثان بانيكوف، نائب ضابط المخابرات الوطنية الأمريكية السابق للشرق الأوسط: "الآن مع اقتراب الإيرانيين أكثر فأكثر من الأسلحة النووية، وتوتر دول الخليج، فإنهم في الحقيقة لا يريدون صراعاً في ساحتهم الخلفية، لذا فهم يتحوطون لأنهم يحاولون إقامة علاقات أفضل مع إيران".

لا يؤدي التحول الجيوسياسي في المنطقة بالضرورة إلى كارثة للولايات المتحدة.

يحاجج ميللر بأن لدينا ثلاث مصالح أساسية فقط في الشرق الأوسط - محاربة الإرهاب، وضمان الوصول العالمي إلى النفط ومنع الانتشار النووي - وأننا ما زلنا نعمل بشكل جيد مع أول مصلحتين.

ولكن لدينا مشكلة كبيرة في الثالثة. وإذا أصبحت إيران دولة نووية، فقد لا يكون السعوديون والإماراتيون والأتراك بعيدين عن امتلاك سلاحهم الخاص.

يواصل بايدن الإصرار على أن الولايات المتحدة لن تسمح أبداً لإيران بامتلاك أسلحة نووية، لكنه لم يقدم أي مؤشر على كيفية منعها.

لا أحد يتخيل أنه سيشن حرباً على إيران -ولا ينبغي له ذلك- فلم يكن حتى على استعداد لتقديم الضمانات الأمنية الأمريكية إلى السعودية أو المساعدة في تطوير برنامج نووي مدني تريده الرياض كثمن للتطبيع مع إسرائيل.

وقال نصر: "لم يَعُدْ من الواضح ما يعنيه الردع الأمريكي بعد الآن، لذا يحاول الإماراتيون والسعوديون إخراج أنفسهم من قائمة الأهداف الإيرانية".

تحتاج الإدارة إلى القيام ببعض التفكير الجادّ حول كيفية حماية المصالح الحيوية للولايات المتحدة وسط رمال الشرق الأوسط المتحركة.

إن التظاهر بأن تحوُّل النفوذ لا يحدث - وأن الولايات المتحدة يمكن أن تستمر في التصرف كقوة مهيمنة - لن ينجح، فالإدارة بحاجة إلى الخروج من حالة الإنكار والبَدْء في التعامُل مع الواقع الجديد.

ولأول مرة منذ عقود، يتعين على الولايات المتحدة التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط بدلاً من اعتبار أسبقيتها أمراً مفروغاً منه.

وقد تُضطر واشنطن حتى إلى التعوُّد على دور متزايد للصين، كما قد يجعل ذلك الكثيرَ من الأمريكيين غيرَ مرتاحين، لكن هذا هو ثمن إخراج الولايات المتحدة من الكثير من قضايا الشرق الأوسط، فكلما قلَّ الالتزامُ كان التأثيرُ أقلَّ.

المصدر: واشنطن بوست/ بقلم: ماكس بوت/ ترجمة: عبدالحميد فحام

 

المقالات المنشورة في "نداء بوست" تعبّر عن آراء كتابها وليس بالضرورة عن رأي الموقع.


أحدث المواد