نشرت قناة جهاز الأمن العام التابعة لهيئة تحرير الشام على تطبيق تلغرام في يوم الأحد 7 آذار / مارس 2021 خبراً مفاده "أن الجهاز الأمني قام بضبط كمية من الحبوب المخدرة تزيد عن 2 مليون حبة على حاجز الغزاوية بالقرب من مدينة دارة عزة، قادمة من ريف حلب الشمالي، تم تعبئتها في عشرات الأطنان من مادة البيرين التي، تستخدم لغرض التدفئة في الشمال السوري بدلاً من مادة الحطب".
وأفادت بأن "وجهة شحنة الحبوب المخدرة كانت إلى تركيا ثم السعودية".
واكتفى الجهاز الأمني التابع لتحرير الشام بعرض المواد المخدرة المهربة بدون أن يعرض صور العصابة التي لم يلق القبض على أي منها.
إن ملخص رواية "هيئة تحرير الشام" هو: أن "السائقين لا يعلمون شيئاً عن البضاعة، ولم يتم الإمساك بالمهربين فقد كانوا يتواصلون مع السائقين عبر أرقام غير معروفة! لكن أحد السائقين كشف عن الأمر وأبلغ تحرير الشام عن الحبوب المخدرة عند معبر الغزاوية الذي تسيطر عليه تحرير الشام!".
لكن من أين علمت تحرير الشام أن وجهة البضاعة كانت متجهة إلى تركيا ثم إلى السعودية؟؟ بالرغم من أن تحرير الشام لم تمسك بالمهرب الأصلي؟
أمام هذه الرواية المقطوعة الاتصال سنداً، والمعلولة النص متناً لا يمكن أن نقف أمامها إلا أن ننفي الرواية من أصلها أو نقبلها على علتها أو أن نحاول تصحيح الرواية من خلال إيجاد الحلقة الضائعة منها.
بداية لا يمكن الكشف عن حقيقة ما جرى إلا من خلال فهم دور تجارة المخدرات التي تشهدها مناطق الفوضى والصراع في سوريا، في تنمية اقتصاد الحرب الذي تحتاجه أطراف النزاع إلى درجة أن تسوغ لنفسها تجارة المخدرات كمصدر من مصادر جني السيولة السريع، وهنا لابد من تحديد أطراف العلاقة في هذه الجريمة بين الجهة المنتجة وطرق التوريد والتوصيل وأسواق الاستهلاك للمادة المخدرة.
فمن من خلال إحصاء المرات السابقة فقد ضبط العديد من الشحنات بأكثر من 15 طناً في إيطاليا وقبلها 30 مليون حبة في اليونان، وملايين أخرى ضبطتها السلطات الأمنية في مصر والسعودية والأردن وغيرها من الدول، التي باتت وجهة "الكبتاغون السوري".
يتبين أن النظام السوري والميليشيات الإيرانية المتحالفة معه هم المصدر الأساسي ويكاد يكون الوحيد لإنتاج هذه المادة التي يعوض من تجارتها ما أصابه من نقص في السيولة بسبب العقوبات المفروضة عليه وبسبب نفقات الحرب الباهظة.
هنا يأتي السؤال الثاني عن طريق العبور لهذه المادة والتي يفترض أنها الأقصر والأسهل بين مناطق الإنتاج وأسواق التصريف في اليونان ومصر والسعودية والأردن وإيطاليا.
فلماذا وبحسب رواية تحرير الشام يضطر النظام لإدخال المادة حبوب الكبتاغون تهريباً إلى مناطق الشمال السوري ثم يدخلها إلى مناطق سيطرة تحرير الشام ومنها إلى تركيا ثم إلى السعودية؟.
فإذا كانت الجهة المستهدفة هي السعودية كسوق نهائي للتصريف بحسب روايتهم فإن الطريق من الأردن ومن العراق إلى السعودية أقصر وأقرب ، وإن كانت الوجهة هي تركيا فالطريق من غصن الزيتون إلى تركيا هو كذلك أقرب، أم أن تحرير الشام أرادت بنسج الرواية الخاصة بها البعث برسائل سياسية من خلالها، وكان لا بد من إدخال تركيا ومناطق درع الفرات والغصن الزيتون أطرافاً في هذه القصة؟
ثم نأتي إلى سند الرواية فبحسب رواية تحرير الشام" بأن ضبط الكمية تم من خلال تبليغ سائق الشاحنة الذي كان يتواصل بدوره مع المهرب عبر "أرقام غير معروفة"، فمن أين علم الجهاز الأمني لتحرير الشام بوجهة الحبوب المخدرة وأنها تتجه فعلاً إلى تركيا ثم إلى السعودية، فلا يعقل أن تكون مهمة سائق الشاحنة هي توصيل المادة عبر تركيا وصولاً إلى السعودية حتى يخبره المهرب بكامل خطة السير!
فمن المعلوم أن سيارات الشحن السورية لا تدخل الأراضي التركية، أو أن الأمر هو مجرد استنتاج خاطئ من تحرير الشام حول وجهة الحبوب المخدر؟
أو أن الجهة التي سيتم توصيل الحبوب المخدر لها لم تكن معلومة عند تحرير الشام ولا السائق الذي أخبرهم بها، فقامت تحرير الشام بإضافة الحلقة المفقودة من الرواية ؟
الإشكالية الأهم في الرواية هي تغليف الحبوب المخدرة بمادة البيرين وهي مادة ناتجة عن عصر الزيتون تستعمل في التدفئة في مناطق شمال سورية لكن من المؤكد أنها غير معروفة أبداً في السعودية …. هنا ربما يقال إن المخدرات كان سيتم إعادة تغليفها بعد وصولها إلى تركيا، لكن تركيا الغنية بالفحم والحطب لا تستورد هذه المادة من سوريا.
من كل ما سبق لا نريد بالتأكيد نفي أصل الحادثة والواقعة لكننا ننقد الرواية غير المتماسكة التي جاءت بها تحرير الشام في تفسير الواقعة والأبعاد التي أعطتها لحادثة تهريب حبوب المخدر ، إضافة لتحميلها بالرسائل السياسية.
وهنا يأتي السؤال الجوهر: ماهي الرسائل السياسية التي أرادت تحرير الشام تمريرها في روايتها؟
حتى ندرك الرسائل السياسية لتحرير الشام لابد، من أن نفهم التموضع الأمني للهيئة كاستراتيجية أساسية لضمان البقاء وفتح العلاقات الدولية وتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
وهنا تمثل ملفات مهمة مثل ملف احتواء المقاتلين الأجانب ومحاربة تنظيمات مثل داعش وحراس الدين وحماية الحدود من حركة الهجرة غير الشرعية مع تركيا إضافة لملف تجارة المخدرات، ملفات مهمة لتحرير الشام لتحقيق المكاسب السياسية مع الدول الإقليمية والعالمية.
لذلك حرصت تحرير الشام على إخراج روايتها عن إحباط شحنة حبوب المخدر محملة برسائل سياسية مهمة.
الرسالة الأولى موجهة للجانب التركي أن تحرير الشام هي التنظيم القادر على ضبط الأمن على الحدود التركية والمحافظة على تحرير الشام هو محافظة على الأمن القومي التركي وذهاب تحرير الشام يعني انفلات الحدود وعبور المخدرات والإرهابيين والمهاجرين غير الشرعيين إلى العمق التركي، ولا بد لتركيا من الشراكة معها، بالإضافة إلى إظهار حالة الفشل والتسيب في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون لتكون البديل الذي يمسك بكل الملف الأمني على الحدود التركية من الجهة السورية.
الرسالة الثانية موجهة إلى المملكة العربية السعودية، مفادها أنها تحرص على أمن المملكة ويمكن لتحرير الشام أن تكون شريكاً للملكة في ملفات كثيرة أكبر من مجرد إحباط شحنات المخدرات، وإنما لما هو أكبر في مواجهة القاعدة وإيران الأعداء الأكبر للملكة العربية السعودية.
إذا نجت تحرير الشام في إيصال هذه الرسائل الإيجابية إلى كل من تركيا والمملكة العربية السعودية فإنها تتوقع جهداً سعودياً تركيا مشتركاً لدى الإدارة الأمريكية لرفها عن قوائم الإرهاب.
فهل تنجح تحرير الشام من خلال الاستثمار الأمثل في الملفات الأمنية والبعث بالرسائل السياسية أن تنال ما تريد؟
يبدو أن الأمر مفيد لكن ليس إلى درجة اللعب المكشوف بالملفات الأمنية واختراع الأخطار الأمنية واحتوائها والتظاهر بحماية الدول منها وابتزازها بطريقة تبدو مكشوفة، الأمر الذي يتسبب بفقد الثقة بدلاً من بنائها.