سألني زميلٌ ليبي، كيف تصفين الشخصية السورية، والجواب أنه للأسف باستثناء صفةٍ واحدة، ليس للشخصية السورية فحَسْبُ، بل للشخصية العربية، ليس هناك صفات واضحة ومزايا ثابتة، فدائماً ما تتغير هذه الشخصية، بتغير النظام الحاكم.
الشخصيةُ العربية هي التجلي لوصف الانهزامية بكامل صفاتها، والولوج لها، لا تحتاجُ فيه البحثَ والتمعنَ، حيث ستجدها طافيةً على السطح، تتجلى بانعدام الإنتاج وعدم الفعل.
الشخصيةُ الانهزاميةُ، وبحَسَب علم النفس تصطبغُ بنظرةِ الانتقاص من ذاتها ومن قدراتها، وذلك ينعكس بتعاطيها مع الحياة والأشخاص باللامبالاة، وتتعدى ذلك لتتوقع السلبية واللاجدوى من أي عملٍ مُستَقبليّ، أي أنَ الإحباط هو حاكمُ نظرتِها، لذا فهي دائماً ما تتكلم ولا تفعل، فلا عزيمةَ لديها، تائهة بين الرغبة والقدرة، ومحور أساسي في هذه الشخصية أنها تُتقنُ دور الضحية.
إذاً شخصية مهزومة، لم تُخلَق بين يوم وليلة، بل كانت تتشرب الهزيمة تِلْو الأخرى دون أن تنطق ودون أن تنتفض، حتى وصلت إلى ما هي عليه، لا تعمل بل تنتقد، رغم أنه لا إنتاج يُذكر ولكن الكثيرُ من النقد، عاجزةً عن تحمُّل المسؤولية وتستبدلها بإلقاء اللوم، هل هناك مَن يُجلي هذا الوصف أكثر من الشخصية العربية؟
هذه الانهزامية تسري على جميع المناحي، الاجتماعية منها بعلاقاتها الهشة، فغلبة شعور اللاجدوى، يجرُها لأن تكون ذات علاقاتٍ وقتية تحكمها الحاجة، والتمثيلُ بتَمَثُّل رغبة الآخر، لنجد أنفسنا في مضمارٍ مجبرين على السير ضِمنه إذا أردنا الاحتفاظ بذلك الآخر.
على المستوى الثقافي والسياسي، تتجلى آثار هذه الشخصية في تَعثر الخلق وغلبة النقل على الإنتاج، وانكفاء الغالبية لإحياء عقليةٍ ميتةٍ وتلبيسها لواقعنا الحالي، على أنها روحه المُنقذة.
يغيبُ الإنسان عن تكوين العقل الذي رأى محمد عابد الجابري أنه يرتكز على ثلاثة أقطاب، الله، والإنسان والطبيعة، وإذ نَحَى الطبيعة عنه في العقل العربي، تيمناً بثنائية القطب التي ارتكزت في العقل الأوروبي على الإنسان والطبيعة دون الله، ستقتصر مكوناته في العقل العربي في هذه الآونة وبغياب الإنسان على الله وحده، ليصطبغ هذا العقل بذهنية التسيير بعيداً عن التخيير، وليكونَ دائماً في خانة التوكل بعيداً عن الإعقال.
وذلك يعني غياب الأداة المُنتِجة للأفكار والفكر عموماً، لنرَ أنَ العقل المكوَّن الذي ارتكز عليه الجابري، يتمحور في الآونة الحالية على الاستسلام وتسليم الأمر بدون فعل.
لم يَصل العقل العربي إلى صيغته الأوروبية المبنية على “إدراك الأسباب” أي المعرفة، فنراه يعودُ للقديم واجتراره، ويلجأُ للتعقيد والغلو فيه، لإثبات عدم الفراغ، والنتيجة، أنه عاجزٌ عن إثبات عدم العجز.
التبريراتُ تارةً تكون بنهايات هيغل الحتمية، وتارةً بالدين، رغم أنَ عبارة كارل ماركس، لا بد وأن يتم دمجها مع عبارة فولتير، الذي لم يَمَسّ الجانب الروحي الخاص بمعتقد الإنسان، لنخرج بعبارة تُمَثل حال العرب بصدق، “لو لم يكن الدين موجوداً، لاخترعت الشعوب العربية أفيونها الخاص”.
الشخصيةُ العربية، أفيونها في انهزاميتها، حيثُ تُقصيها اللاجدوى الغالبة عن العمل، فالنخبةُ أصلاً تقوم بعمل العامةِ، لتكون عامةً بإنتاجها، ولننتهي أنه لا نخبةَ هناك ولا عامة، بل نسخٌ كثيرة، فماليزيا دولة مسلمة، وسنغافورة تحكمها امرأة مُسلمة، وأمريكا ذاتُ شعبٍ مُتدين، كما أنَه وعلى الناحية الأخرى، الكثيرُ من الناس في الآونة الأخيرة، اتخذوا منحى الإلحاد، إلاَ أننا لم نرَ إنتاجاً غنياً موازياً، لأنه في الغالب وحتى المواقف الفكرية والأيديولوجية، تأتي كرد فعلٍ على حرمانٍ أو أهواءٍ شخصية، فتبقَى عاجزة عن بلورة مزايا الشخصية العربية.
في السياسة، تَتبعَ المؤرخ المصري خالد فهمي أسبابَ الخمسة أيام التي هزت الشرق الأوسط وغيرت ملامحه، ليخلُص إلى سببين رئيسييْنِ:
الأول: أنَ عبد الناصر أدار معركة عام 1967 بعقلية عام 1956، أي أنه كان أسيراً لانتصاره، مُستعيراً شرحَ محمد حسنين هيكل لفكرته “متلازمة الآسِر والأسير”، أي أنَ شخصية عبد الناصر كانت آسِرة للجماهير ولكن في نفس الوقت كان عبد الناصر أسيرها، مما اضطره لأخذ قراراتٍ لم يستطع العدول عنها.
الثاني: لأسبابٍ هيكلية ويُحددها، بتمحور القرار في شخص عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، واتخاذ القرار على أساسٍ شخصي وليس واقعي، ويؤكد أنه لولا حصول ذلك على الأقل، لم تكن لتأخذ الهزيمة هذا الشكل الذي حصلت عليه.
إذاً أسبابُ أكبر هزيمة طالت العرب، تمثلت بوهم الانتصار والشخصنة، ويبدو أنها ليست أسبابَ تلك الهزيمة فقط، فرغم هزيمة المشروع الناصري، ما زال الكثيرون من العرب يعيشون الوقت الحاضر بعقلية ومشروع عبد الناصر، وطبعاً ليست المشكلة بعبد الناصر، بل بإصرار هؤلاء وغيرهم على اجترار العقليات وتكريس الشخصنة وأوهام الانتصار.
في الشخصية السورية، تحضرُ هذه المشكلة وبقوة، فنسمع عن وهم سورية العظيمة، وهو الوجه الثاني لسورية المقاومة وحماية الأقليات، متى كانت سورية العظيمة؟!.
إذا كان هناك فترة مضيئة في تاريخ سورية في المئة سنة الأخيرة، والغوص أبعد من ذلك هو القديم الذي يجب أن تُطوى صفحته، تمتدُّ من العشرينيات وحتى الأربعينيات، فاعذروني ولنَعُد على الأصابع مَن هي الشخصيات التي عاصرت تلك الفترة؟
حالُ السوريين أننا في الشعارات نتمسك بها ونصدقها وكأننا نبكي على حليبٍ مسكوب قد تذوقناه فعلاً! أمَّا في المواقف فيحصل العكس تماماً، فكأننا لم نعرف ما تعنيه الدولة وما هي محرماتها ومقدساتها، فنرى سوريين أتراكاً أكثر من مواطنيها، وروساً أكثر من أبناء القياصرة، ولم يضرنا أن تُرفَع الأعلام غير السوريَة، ولم يضرَّنا أنَ جميع القرارات الخاصة بسورية إن كان في الداخل أو في الخارج، تأتي من السفارات، فلم نعد نعرف، هل تذوقنا الدولة وعشنا في كنفها بمفهومها الحديث، أم لم يحصل!
استبقاءُ الشعارات لأن تكونَ المنكَفِئَ الأكثر وجهةً للسوريين، مُناصفةً مع شعور المظلومية، والذي هو لُبّ الشخصية الانهزامية، لن يَنتُج عنه سوى شعورٍ وهميٍّ، ولن يغذي سوى أوهامٍ أكبرَ وأكبرَ.
نهايات هيغل الحتمية لا بد وأن تتمثل في نهاية هذه المرحلة، فليسَ صحيحاً أنَّ مَن لا ماضيَ له لا حاضرَ، وتجاربُ دولٍ كثيرة لا يتجاوز عمرها الخمسين عاماً، تقول ذلك، مع نظيرتها كذلك التي حاولت اجترار تاريخها القديم واهمةً بإمكانية إحيائه، وشكل الدولة المفروض، لا يتعدى احترامَ مواطنيها وتأسيس فكرة المواطنة، وربما هي فرصةً على طبقٍ من ذهب، للنجاة من فكرة عبء التاريخ وأوهامه الكاذبة، بمن كتبوه وعلى أي أساسٍ سوّغوه، ولصالح مَن أجروه، غير ذلك سيكون ترقيعاً يُعيدنا للحظة الاغتصاب.
لا أظن أن الحالة العربية وصلت إلى هذا الوضع في أي زمنٍ من الأوقات، فما زال العرب، السوريون، يخلقون إلهاً تِلْو الآخر، على شكلِ حاكم.
حتى في زمن الاستعمار لم تتوقف حركة النهضة والمقاومة والخَلق، وسورية مثالاً، ففترة ازدهارها في التأريخ الحديث تزامنت مع دخول المحتلّ الفرنسي إليها، ومن غير المقبول أن يقول أحدهم إنَ سورية كانت أفضل تحت حكم الاستعمار الفرنسي، فهي كانت كذلك بيد أبنائها السوريين الذين عملوا من أجلها بكل إيمانٍ راسخ.
لا بدَّ من عملية عبورٍ من الشخصية الانهزامية لنتمكن من الانتقال من حالة النقل إلى حالة الخلق بذهنية الحاضر، فآنَ للمثقفين أن ينزلوا من برجهم العاجي، والمواطنين أن يندرجوا في فكرة العمل المدني العامّ، الذي لا بد وأن يُؤَسَّس على أساس الحاجة، وحاجتنا كبيرة وعميقة ومخيفة، ومشكلاتنا لا حصرَ لها، فليس هناك سوى الفقر والعدمية، في السياسة، في العلوم، في العلم والتكنولوجيا، في الأخلاق وحتى في الإنسانية، وحده الموت لا شريك له.
فلنترك الدين، ولنترك الإلحاد، ولنترك جميع المسوغات، ولنهتدِ بعملنا، علَّنا نجدُ الخلاص.