نداء بوست- أخبار سورية- إسطنبول
28 شهراً مضت على توصُّل تركيا وروسيا لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في محافظة إدلب، بعد عملية عسكرية واسعة نفذتها قوات النظام في المنطقة بدعم روسي وإيراني.
وتُعتبر هذه المدة هي أطول فترة تهدئة تشهدها المنطقة، رغم الخروقات المتكررة التي تقوم بها قوات النظام وروسيا وإيران فيها، والتي لم تصل -رغم ذلك- إلى حد انهيار الاتفاق والانزلاق في مواجهات شاملة بين النظام والمعارضة.
وفي الوقت ذاته لم تتحوّل التهدئة إلى وقف شامل ومستدام لإطلاق النار، لعدم توصُّل روسيا وتركيا إلى اتفاق نهائي حول مصير المنطقة.
وحول مصير التهدئة في إدلب واحتمالية استمرارها أو انهيارها، نشر “مركز جسور للدراسات” يوم أمس الثلاثاء، تقدير موقف ناقش فيه محدِّدات مواقف الدول الضامنة لمسار أستانا في إدلب، والعوامل المؤثرة في انهيار هذه التهدئة، والآثار المحتملة لذلك.
وبدأ المركز بحثه بالإشارة إلى أن استحضار سيناريو انهيار التهدئة في إدلب يرتبط بشكل كبير بعودة التصعيد على نحو غير معتاد، من نشاط سلاح الجو، وحملات القصف الصاروخي العنيف والكثيف بين قوات النظام والمعارضة، وعودة نشاط التنظيمات الجهادية.
وكذلك نوَّه بأنّ ذلك يحصل بين فترة وأخرى، وغالباً ما يتزامن أو يرتبط إما مع خفض التزام أحد الضامنين بالتعهدات حول التفاهمات المشتركة، أو مع انعقاد مباحثات دبلوماسية حول المنطقة، كارتفاع حدة التصعيد أواخر أيار/ مايو الماضي بعد إعلان تركيا نيّتها شنّ عملية عسكرية جديدة في سورية.
ويشير المركز إلى أن “تركيا وروسيا وإيران تمتلك محدِّدات خاصة ترسم مواقف كل دولة على حِدَةٍ في ملف إدلب، ونتيجة لاختلاف المصالح تحوّلت المنطقة إلى إحدى عقد المشهد السوري المستعصية”.
فتركيا -يقول المركز- لديها 3 محدّدات فيما يخص إدلب، هي إرساء الاستقرار لمنع حدوث موجات هجرة جديدة نحوها أو باتجاه الشريط الحدودي، وضمان أمن الحدود بالحفاظ على عمق يتراوح بين 30 و60 كم بين مناطق سيطرة النظام، إضافة إلى التأثير في العملية السياسية عَبْر ضمان استمرار انتشار القوات التركية لمنع النظام من السيطرة على مزيد من مناطق المعارضة.
كذلك تمتلك روسيا 3 محدّدات، أولها تأمين قاعدة حميميم بتقويض سيطرة وقدرة المعارضة في إدلب المعارضة، عَبْر توسيع سيطرة النظام، وإعادة سيادة النظام على المنطقة بفتح الطرق الدولية واستعادة إدارته لمعبر باب الهوى وعودة عمل مؤسسات الدولة الرسمية في مركز المحافظ، وأما الأمر الثالث فهو التأثير على سياسات تركيا باستخدام إدلب كمساحة جغرافية للضغط على أنقرة عسكرياً وسياسياً.
وبالنسبة لإيران، يشير المركز إلى أن سياستها في إدلب تنطلق من أمرين، أولهما تأمين مدينة حلب عَبْر دعم استعادة سيطرة النظام على مناطق إدلب، وثانيهما التأثير على سياسات تركيا برفض أو عرقلة أي حلّ لا يقود إلى استعادة سيطرة النظام على كامل إدلب، وذلك بقصد الضغط على أنقرة ودفعها للاستجابة إلى مطالب طهران وعدم تخطِّي مصالحها داخل وخارج سورية.
وأما عن العوامل المؤثرة في انهيار التهدئة بإدلب، فيوضح المركز أن استدامة التهدئة أو انهيارها مرتبط بأربعة عوامل، تأتي في مقدمتها المفاوضات “الروسية- التركية”، والصراع في أوكرانيا، وموقف إيران، وموقف الولايات المتحدة.
وشرح المركز أن الاستقرار في محافظة إدلب يتأثَّر بشكل مباشر بالعلاقة بين الدول الضامنة للتهدئة، حيث يزداد التصعيد عند توتر العلاقات بينها، ويسود الهدوء مجدداً مع حل النقاط الخلافية بين الضامنين، وتحديداً تركيا وروسيا.
ولفت إلى أن الدول الضامنة تخوض مؤخراً مفاوضات على مستقبل النفوذ وحدود السيطرة، فتبحث تركيا عن توسيع عملياتها العسكرية ضد “قسد” لتقويض سيطرتها قرب المنطقة الحدودية، بالمقابل فإن روسيا تطالب بتنفيذ مذكرات التفاهم المتعلقة بإدلب، بالإضافة إلى مطالبة تركيا بالتعاون مع النظام السوري.
وأضاف: “إن التوصل إلى توافُقات مرضية للأطراف حول مناطق النفوذ، ومصير قسد، وتنفيذ التفاهمات المتبادلة المتعلقة بشمال شرق وشمال غرب سورية، سيعني استدامة التهدئة، أما تصاعُد الخلافات وتمسُّك كل طرف بمقاربته فسيقود إلى تصعيد قد يصل إلى انهيار واسع للتهدئة، خاصة إذا اتجه أي طرف لمحاولة فرض رؤيته كأمر واقع على باقي الضامنين”.
وحول تأثير الصراع الروسي الأوكراني على إدلب، قال المركز: إن نظراً للأهمية البالغة الذي يمثلها هذا الصراع بالنسبة لروسيا، فمن غير المستبعد أن تقوم موسكو بردود أفعال في إدلب تؤثر على الأمن القومي التركي، نتيجة السياسات التي تبنتها أنقرة في دعم كييف، على غرار ما فعلته روسيا مع إسرائيل، عندما قيدت ضرباتها الجوية الوقائية ضد الميليشيات الإيرانية في سورية.
وعن موقف إيران، لفت المركز إلى أن الميليشيات الإيرانية وسعت من نشاطها وحضورها في شمال غربي سورية منذ شباط/ فبراير، وبشكل أساسي منطقة العمليات العسكرية المحتملة ضد قسد شمال حلب.
وأوضح أن “تجاوز تركيا لموقف إيران والاكتفاء بالتفاهمات مع روسيا، دون تقديم ضمانات بشأن مناطق نفوذها شمال غربي سورية المتمثلة ببلدتَيْ نبل والزهراء ومدينة حلب وضواحيها الغربية، قد يدفع طهران إلى تصعيد ميداني يكون أوسع هذه المرة، ويؤدي إلى تقويض التهدئة”.
وبخصوص الموقف الأمريكي، أكد المركز أنه من الممكن أن تتأثّر التهدئة في إدلب بمسار المفاوضات بين تركيا والولايات المتحدة، فمن شأن تعزيز التقارب بين الطرفين أن يؤثر على نفوذ روسيا في سورية، وبالتالي احتمال نشوب موجة تصعيد جديدة شمال غربي البلاد.
وأضاف: “إن ما قد يُهدد التنسيق بين تركيا وروسيا في تركيا مساعي أمريكا لتقويض العمل المشترك بين الطرفين، وقد يكون ذلك بالموافقة على شنّ عملية عسكرية جديدة في سورية ضد “قسد” أو إعادة الاتفاق على إنشاء منطقة آمنة على غرار وثيقة أنقرة (2019) حول سورية. لكن ذلك قد لا يرتبط فقط باتفاق الطرفين على القضايا الخلافية حول سورية، بل خارجها كصفقة الطائرات وغيرها”.
وحول الآثار المحتملة لانهيار التهدئة، يتوقع المركز في حال وقوع هذا السيناريو اندلاع مواجهات بين قوات النظام وفصائل المعارضة، تتركز في مناطق جنوب إدلب المتاخمة لمعرة النعمان وسراقب، وتمتد إلى شمال إدلب وريف حلب الغربي على الخط الواصل بين دارة عزة وقبتان الجبل، كما أنه لم يستبعد أن تُبدي “قسد” مرة أخرى الاستعداد للمشاركة في أي عمليات قتالية في إدلب إلى جانب قوات النظام.
كما أشار إلى أن أي انهيار للتهدئة سيترتب عليه آثار إنسانية، تتمثل بموجات نزوح جديدة باتجاه الشريط الحدودي، أو منطقتَيْ عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، ومن المحتمل أن يلجأ النظام وحلفاؤه لإحداث أزمة إنسانية متفاقمة في إدلب بهدف الضغط على تركيا.
وحول موقف القوات التركية في المنطقة، قال المركز: “إن الانزلاق باتجاه سيناريو انهيار التهدئة سيدفع بالقوات التركية المنتشرة على خطوط التماسّ في إدلب إلى استخدام القوة كنوع من الضغط بهدف العودة إلى المفاوضات مجدداً، وبالتالي استعادة حالة التهدئة، على اعتبار أن أنقرة لا ترحب بتصعيد واسع يؤثر على خططتها المتعلقة بتسهيل عودة اللاجئين إلى مناطق آمنة نسبياً قُبيل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية”.
وأيضاً لم يستعبد المركز أن تلجأ أنقرة إلى توفير دعم لفصائل المعارضة لتنفيذ هجمات نوعية ضد قوات النظام من أجل رفع تكلفة استمرار التصعيد، وبالتالي إجبار الطرف الآخر على إعادة حساباته.
وأضاف: “بطبيعية الحال إنّ انهيار وقف إطلاق النار في إدلب سيؤدي لاتساع الخلافات بين الدول الضامنة ومسار أستانا، ويؤثر على التعاون والعمل المشترك بين الطرفين شرق الفرات، ومن غير الضروري أن تتأثر العملية السياسية في إطار اللجنة الدستورية، ومع ذلك، فإن الحديث عن آثار لانهيار التهدئة لا يعني عدم قدرة الأطراف على احتواء التصعيد مرة أخرى كما حصل في الحالات السابقة”.
وخلص المركز إلى أن احتمال انهيار التهدئة في إدلب يبقى قائماً طالما أن الأطراف الضامنة لم تتوصل إلى تفاهُم نهائي حول النقاط العالقة، من ضِمنها حجم الانتشار العسكري التركي الكبير غير المنصوص عليه ضِمن مسار أستانا، إضافة إلى آلية تشغيل الطرق الدولية، ومصير هيئة تحرير الشام وغيرها.
ورغم ذلك، يضيف المركز: “تبقى فرص هذا السيناريو ضعيفة مقارنة مع توجهات الدول الضامنة، من الضغوطات التي تتعرض لها روسيا في أوكرانيا، وامتداد المواجهات إلى شِبه جزيرة القرم واستهداف قواعد عسكرية روسية هناك، مقابل تركيز تركيا على ضرورة التهدئة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية”.
ومما يجعل فرص العودة إلى المواجهات العسكرية منخفضة، في ظل التقارب الملحوظ بين تركيا وروسيا منذ قمة “سوتشي” الأخيرة، والتوافق على خطوات اقتصادية وسياسية، من ضِمنها اعتماد بنوك تركية لنظام الدفع الروسي “مير”، واستيراد تركيا لبعض السلع بالعملة المحلية بدلاً من الدولار، وفقاً للمركز.
ويرى المركز أنّ انخفاض فرص انهيار التهدئة لا ينفي احتمال لجوء النظام وحلفائه إلى التصعيد الميداني أحياناً لتحقيق مكاسب خلال مَسار المفاوضات مع تركيا.