في الأول من أيار عام 1986 انطلقت في مدينة كييف الأوكرانية مسيرة بمناسبة عيد العمال، كان الذي يميز هذه المسيرة هو الإصرار على انطلاقها رغم الحاجة الشديدة لإلغائها، لكن أراد الرفاق إثبات أن الحادث الذي وقع في تشيرنوبيل – 110 كم شمال كييف – قبل أربعة أيام هو حادث عرضي بسيط، وليس انفجاراً ضخماً سيصنف كأسوأ كارثة نووية في العالم، ولمزيد من الإثبات أصرت القيادة الحزبية على المشاركين إحضار أولادهم معهم.
لم يعترف الإعلام السوفيتي بوقوع الحادث إلا بعد 17 يوماً، فقد كانت الفكرة السائدة وقتها أن وقوع كارثة من هذا النوع في الاتحاد السوفيتي إهانة لكرامة الأمة، لكن في 29 نيسان عام 1986 سجلت بولندا وألمانيا والنمسا ورومانيا مستويات عالية من الإشعاع. وفي 30 نيسان سويسرا وإيطاليا، وفي الأول من أيار فرنسا وبلجيكا وهولندا، وبريطانيا، واليونان، وفي الثالث من أيار، الكويت وتركيا، وفي الخامس منه الهند، وفي السادس الولايات المتحدة وكندا، واضطر الرفاق لِلَعْق كذبهم، والاعتذار من الأصدقاء، بل وحتى طلب المساعدة من الأعداء لاحتواء الحادث.
في البداية كان السوفييت يكذبون حيال وقوع الكارثة أصلاً، ثم أخذوا يكذبون حيال حجمها، ثم أخذوا يكذبون حيال أسبابها، لكن هل كانوا يعلمون أن الكذب والاستمرار فيه، سيؤدي لسقوط دولة تمتد مساحتها على أكثر من 22 مليون كيلومتر مربع!!! بعد الحادثة بخمس سنوات سقط الاتحاد السوفيتي، وقال غورباتشوف في مذكراته بأن تشيرنوبيل كان أحد الأسباب المباشرة في هذا السقوط.
اقتسم العالم تركة الدولة الشيوعية، فحصلت الجمهوريات على استقلالها، وحصلت أمريكا على العلماء، وحصل العرب على حصتهم أيضاً، وبقي الكذب للروس، واشتهروا به، حتى بات يقال بأن الروس يكذبون على أمهاتهم، وبسبب ذلك وجه مركز “كارنيغي” عدة نصائح إلى أوكرانيا مستخلصة من التجربة السورية منها: أن روسيا تستخدم المفاوضات الدبلوماسية للمماطلة وكسب الوقت، دون نية حقيقية لحل النزاع، بل كتكتيك لصرف الانتباه عما يحدث على أرض الواقع، وتحدث عن الوقائع التي بُنيت عليها تلك النصائح، مثل حديث المسؤولين الروس في جولات أستانة الأولى عام 2017 عن إخراج الميليشيات التابعة لإيران من سورية، وتعهدهم بتنفيذ قرار مجلس الأمن وقف إطلاق النار المتخذ بشأن الغوطة الشرقية عام 2018، والتزامهم بإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود الجنوبية مسافة 80 كم حسب اتفاق درعا عام 2018، وأن شيئاً من ذلك لم يتم تنفيذه، بل ما تم هو عكسه تماماً.
لم يكن الأوكران بحاجة لهذه النصائح، فمنذ الأيام الأولى للحرب كانوا يعلمون أن جيرانهم الروس يكذبون حيال كل شيء، أسباب الحرب، والوقائع العسكرية، والمواقف السياسية، حتى عندما استولوا على منطقة مفاعل تشيرنوبيل كذبوا بالقول بأن مستويات الإشعاع هناك طبيعية، لينسحبوا منها خلال أقل من شهر، بعد ظهور أعراض التسمم الإشعاعي على الجنود، ووفاة بعضهم فعلاً.
في نهاية مسلسل تشيرنوبيل الذي أنتجته شبكة HBO، وبعد اكتشافه أنه مصاب بمرض قاتل جراء التعرض للإشعاع النووي قال بوريس شربينا المسؤول السوفيتي الذي تم تكليفه باحتواء الأزمة لليغاسوف العالم النووي الذي عمل معه: “عندما كلفوني بالمهمة قالوا لي بأن الأمر غير خطير، صدقتهم مع أني لا أفعل ذلك عادة…. لقد صدقتهم لأني أردت ذلك فقد عينوني كمسؤول مهم”، دفع شربينا حياته ثمناً لتصديقه ما يعلم أنه كذب، فقد تُوفي عام 1990 متأثراً بالمرض الذي أصابه جراء تعرُّضه للإشعاع.
رغم كل ذلك لا زال البعض يتجاهل كل النصائح، ويقول قال لنا الروس….