مرت المنطقة العربية بفترة تحولات سياسية شديدة التأثير على الاقتصاد، ومع مطلع 2020 بدأت آثار انتشار فيروس كوفيد-19 بالانعكاس على اقتصادات هذه الدول خاصة قطاعي السياحة والطاقة، القطاعين الرئيسين الذين تعتمد عليهما معظم دول المنطقة لتمويل موازناتها.
ما إن أطلت هذه الدول برأسها خارج نفق وباء كورونا حتى دخلت في نفق أخر بدت انعكاساته أشد تأثيراً على بعض الدول العربية، وهو ارتفاع أسعار السلع العالمية، حيث سيصب أثر ارتفاع سعر منتجات الطاقة في سلة دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا بشكل رئيسي، ولكن على جانب أخر تتأثر هذه الدول وبقية الدول بارتفاع تكلفة الواردات من السلع الغذائية ونصف المصنعة، ويتوقع أن تترك هذه الآثار ثقلها على بعض الدول الضعيفة كلبنان واليمن، والسودان، والصومال، وسورية.
لقد بدا أن معدلات الدين العام أخذت بالارتفاع في معظم الدول العربية، بعض الدول كدول الخليج لم تكن مستويات الدين العام فيها تشكل نسبة كبيرة من الناتج المحلي كما هي الآن، ولكنها بدأت بالاقتراض على وقع انخفاض أسعار النفط، كما راحت معدلات التضخم تأكل القيم الشرائية للمستهلكين.
بعد التوسع النقدي الذي حصل في العالم على وقع حزم التحفيز ظهر تيار يطالب برفع معدلات الفائدة من جديد لتصحيح الوضع وخفض التضخم، هذا الأمر شكل تهديداً إضافياً على الدول التي لا تزال تحتاج إلى الاقتراض، هكذا بدا أن اقتصادات الدول العربية هشةٌ تتأثر بقوةٍ عند إي ضربة صغيرة فما بالك بالضربات الكبيرة والأزمات العالمية، كما أنها نادراً ما تستفيد من الفرص التي تولّدها تلك الأزمات.
في وسط هذه البيئة الصعبة التي تتعارك معها الدول العربية؛ راح صندوق النقد الدولي يفتح محفظته أمام هذه الدول موزعاً ملياراته عليها مقابل فوائد واشتراطات ثقيلة قد لا تتحملها هذه الدول، ولكنها تضطر تحت ضغط الحاجة للقبول بها.
لقد استفادت كل من مصر والسودان والمغرب وجيبوتي والأردن وموريتانيا والصومال وتونس من مساعدات صندوق النقد الدولي بمبالغ تقارب 20 مليار دولار، ويقف الصندوق اليوم على طرف الطاولة المقابل للحكومة اللبنانية في إطار مفاوضات إنقاذية تخوضها الحكومة اللبنانية لانتشال البلاد من “جهنم” التي بشّر بها الجنرال عون، الصندوق يشترط القيام بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد تفضي إلى مزيد من الشفافية التي ترفضها معظم الأطراف السياسية في لبنان كما يشترط برامج تقشفية في وسط معدة خاوية يعاني منها اللبنانيون ويحتاجون معها لأي إنفاق إضافي.
الحكومة المصرية اتخذت خطوة إضافية نحو مرونة سعر الصرف، وهي نقطة يرى فيها مسؤولو الصندوق إنجازاً يعزز سيرهم الذاتية، ويرى فيها المواطن المصري أسعاراً غير مسبوقة تهدد لقمة عيشه بحيث لا تنفع رواتب أصحاب السير الذاتية الممتلئة منهم بالتغلب على التحديات، وفي المغرب يرى صندوق النقد الدولي أن مساعداته أمدت المواطنين باللقاح إلا أن ظروف عدم اليقين تهيمن على الوضع هناك وستترك الجائحة (كورونا) ندوباً قد تحتاج إلى عمليات تجميل باهظة الثمن سيدفع المغاربة قيمتها من جيوبهم.
قبل أقل من عام علّق السودان وسام “هيبيك” على صدره، وهي مبادرة لتخفيف أعباء ديون الدولة الفقيرة التي تثقل كاهلها وتعتبر “هيبك” منحة صعبة من حيث تحقيق شروطها، إلا أن السودان فعلها وحصل عليها، مما سيمكنه من شطب معظم ديونه الخارجية ولكن مع اشتراط الإنجاز في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، وحتى على فرض الإنجاز فإن شطب 50 مليار دولار من ديون السودان البالغة 56 ملياراً ستعد نقطة مهمة للحكومة التي ستتولى زمام الإدارة في السودان، ولكن الشكوك تتمحور حول كيف للسودان أن يرفع من مداخيل المواطن السوداني ويحسن من الاقتصاد حتى في إطار تخفيض أعباء الديون وإجراء الإصلاحات؟.
يمارس صندوق النقد الدولي -بغير شك- دوراً مهماً في تأهيل دول المنطقة إلى مرحلة إصلاحات أكثر جدية وقد تمكن هذه الإصلاحات الدول للحصول على موارد مخفضة التكاليف، ولكن الواقع الاقتصادي المتراكم لمعظم حكومات المنطقة يجعل إمكانية الإصلاح شبه مستحيلة، فالعطار لا يمكن أن يصلح ما أفسده الدهر، والصندوق لن يستطيع الإصلاح في ظل بنية سياسية واقتصادية يعدُّ الفسادُ أحد أعمدتها، مما يجعل حُزَم الإصلاح هذه مجردُ زبدَ بحرٍ أمواجه تضرب وجه المواطن بقوة فيلعن ساعة تدخل الصندوق قاصداً بها غيره، على مبدأ “إياك أعني واسمعي ياجارة”.