في وقت يعيش فيه لبنان أسوأ أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويصارع الانهيار الذي أوصله إليه فشل الطبقة الحاكمة وجشعها وحبها للسلطة والمصالح الشخصية والأنانية الذاتية، وفي وقتٍ يقاتل لبنان لضمان حقوقه وحدوده البحرية والبرية الجنوبية كاملة خلال المفاوضات غير المباشرة مع العدو الإسرائيليّ والمتوقفة منذ أكثر من ثلاثة أشهر لأسباب خلافية حول نقاط حدودية، أتت البلبلة من ناحية النّظام السوري الذي يبدو أنّه شرع في قضم آلاف الكيلومترات من حدود لبنان البحرية الشمالية.
وفيما كانت الأنظار متّجهة نحو الناقورة، لإعادة استكمال المفاوضات مع العدو الإسرائيلي تفاجأ اللبنانيون بقضم حقوق بلدهم النفطيّة من قبل النظام السوري في تلزيمه البلوك رقم 1 لصالح شركة "كابيتل الروسية"، وهو البلوك السوري المتداخل مع البلوكين اللبنانيين 1 و2.
فقد قامت حكومة نظام الأسد في 9 مارس/ آذار الماضي بتوقيع عقد مع شركة "كابيتال" الروسية يمتد إلى أربع سنوات، لتقوم بعملية المسح والتنقيب عن النفط، وتبين من خلال العقد الموقع بين الطرفين أنّ الحدود البحرية التي رسمها الجانب السوري وخاصة في البلوك رقم "واحد" مُتداخلة بشكل كبير مع البلوك رقم "1" والبلوك رقم "2" من الجانب اللبناني، أي ما يُقارب 750 كلم مربع داخل الحدود اللبنانية البحرية، وتأتي هذه الخطوة، بعد أن كان لبنان أطلق عام 2014 جولة التراخيص الأولى وعرض البلوك رقم 1 للمزاد واستدراج العروض، وقد قالت دمشق حينها إنّ "الترسيم الذي حصل لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد".
هذا التطور يثير مخاوف من شمول التنقيب منطقة تابعة للبنان، فهناك حدود غير مرسمة بين لبنان وسورية، وفق الخبيرة في مجال حوكمة النفط والغاز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "لوري هايتايان"، التي قالت لـ"وسائل الإعلام اللبنانية"، إنّه "تبعاً للخرائط التي لدينا، فهناك تقاطع واضح بين كيفية تقسيم الجانب السوري للبلوكات رقم 1 و2 و3، وخصوصاً البلوك 1، وطريقة ترسيم حدودنا، بحيث هناك تداخل بين 750 و1000 كيلومتر مربع، وقد يكون في هذه المساحة موارد غازية للبنان"، ولفتت هايتايان إلى أنّ الحكومة اللبنانية لم ترسل حتى اللحظة أيّ رسالة اعتراض أو شكوى عبر وزير خارجيتها إلى السلطات السورية أو حتى تطالب بتوضيحات حول البلوكين رقم واحد واثنين ومكان الحفر وطبيعة العقد بشكل عام، للقيام بخطوات استباقية أو ردعية للحؤول دون حصول اعتداء، أو تتطرّق إلى موضوع إجراء مفاوضات مع الجانب السوري، على الرغم من أنّ هذه الحكومة تعدّ "صديقة لسورية"، مبدية مخاوف من غضّ السلطات اللبنانية الطرف عن حقوق البلاد من المياه المتداخلة مع البلوك السوري.
ومنذ تلك اللحظة، والصمت الرسمي اللبناني مستمر، ولم تقدم السلطات اللبنانية الرسمية على أية خطوة لمواجهة مطامع نظام الأسد وحماية المياه والثروات اللبنانية، والحكومة اللبنانية أمام مسؤولياتها لحماية المياه والحدود ومكامن الثروات النفطية الموجودة في هذه المنطقة البحرية المتنازع عليها. ومن هنا، رأت شخصيات وقوى سياسية لبنانية أنّ على الحكومة اللبنانية المسارعة إلى تقديم شكوى بحق النظام السوري أمام الأمم المتحدة إعتراضاً على آلية ترسيم الحدود بطريقة أحادية والشروع بأعمال مسح وتنقيب عن النفط والغاز في منطقة متداخلة مع المياه اللبنانية. كما أنّ الحكومة اللبنانية مطالَبة فوراً بالاعتراض أمام حكومة النظام السوري على ما يحصل من مخالفات للقوانين الدولية المعتمدة لترسيم الحدود وقانون البحار، والإصرار على وقف الأعمال في المنطقة المتداخلة إلى حين الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية. أيضا من المهم أن تُراسل الحكومة اللبنانية ممثلةً بوزارة الطاقة والمياه الشركة الروسية المعنية لإعلامها بأنّ الحدود البحرية اللبنانية – السورية غير مرسمة نهائيا، وإرسال أيّ باخرة لتقوم بالمسح الجيولوجي ضمن المناطق المتنازع عليها بين لبنان وسوريا، يعرّض الشركة للملاحقة ويهدد مسار عملها، خصوصا في حال قرر لبنان الذهاب بهذا الملف إلى المحاكم الدولية للفصل بالنزاع، مع تأكيد الجانب اللبناني أنّ الخرائط اللبنانية تؤكد أن العقد الموقّع بين سلطات النظام السوري والشركة الروسية يلحظ عمل هذه الأخيرة ضمن منطقة متداخلة.
ومن هنا أيضا على الحكومة اللبنانية أن تطلب من الشركة الروسية توقيع تعهد لدى الجانب اللبناني بأنّ عملها سيكون خارج المنطقة البحرية المتداخلة بين لبنان وسوريا، مع التأكيد أنّ تقديم الاعتراض فوراً واجب على الدولة اللبنانية، لتثبيت موقفها في أيّ نزاع قضائي محتمل في المستقبل.
ولابد من الإشارةِ هنا إلى أنّ أزمة الحدود تعتبر أحد المخاطر التي تتهدد الكيان اللبناني في استقراره واستمراريته، كما بات معلوماً أن أزمة الحدود تتداخل فيها السياسة في ظل الخلافات القائمة بين لبنان والبلاد المحيطة به، بشأن الاقتصاد مع الصراع على المنافع والمصالح، والدور الإقليمي، إضافة إلى النسيج الاجتماعي المتداخل بين لبنان وسوريا عند الحدود الشمالية والشرقية، ويبدو أنّ مسار استكشاف الثروات اللبنانية واستثمارها يواجه مطبات جديدة، ليست محصورة فقط بالأزمة والانقسام السياسي اللبناني الداخلي، وبانتظار معرفة مدى استعداد السلطة السياسية الحالية في بيروت للذهاب بعيداً في هذا الملف يبقى ملف الحدود البحرية عالقاً وملحاً.