رؤية الذات، الفردية، الجماعية، العامة، السياسية، الفكرية، الأدبية، الشعرية وأي ذات تتشكل أو تشكلت واستوت على ما هي عليه، لذاتها نِصفها وَهْمٌ، والنصف الآخر اختلاط بين المعرفة والحقيقة من جهة والقدرة على الموضوعية، والتي تسمى بالشفافية أو النقاء في مستويات الذات من جهة أخرى.
تقييم الذات يحدث عندما يُنظر لها بعيون الآخرين، ولا يستنفذونها في تلك الرؤية. فرؤية الآخر تعكس قدرة الذات على التفاعل مع محيطها وانعكاساتها، تواترها، حيويتها… في حضور الآخر المختلف، لا الاكتفاء في حضور الذات لنفسها بصورتها عن ذاتها. وحيث لا يمكن مقاربة الفعّاليات الحيوية البشرية على أنها مجرد عمليات طبيعية ميكانيكية مباشرية النتيجة، لكن يمكن بكل حال اعتبار العمليات الطبيعية ونماذجها العلمية كعمليات حيوية للإنسان تفيد في تقييمه لإنتاجه وحضوره الوجودي. فإن كانت الرؤية من خلال المرآة المحدبة دلالة تضخيم، والمقعرة دلالة تقزيم وتصغير، فالمرآة المستوية دلالة وَهْم!
في الشرح الذي أُقدمه للطلاب الجامعيين في مادة الضوء، وبغية إيصال فهم مطابق للحالة الفيزيائية الطبيعية للخيال الوهمي الذي تشكله المِرآة المستوية، أستخدم مفردات حياتهم اليومية السورية: تستيقظ نشيطاً، تغسل وجهك وتتجه لمِرْآتك، ذكراً و/أو أنثى، وتبدأ بترتيب وجهك وشعرك، ويسرد بك الخيال: ما أجملني، ما أحلاني، حين سأدخل الجامعة الآن ستمشي خلفي جحافل الطلاب أو الطالبات، فتنة في منظري وجمالي… كم أنا جميل…. ولكن ما أن يخرج الطالب من منزله بعد جولة من الخيال الخصب، يفاجئه/ها سائق السرفيس بالقول: لا تسكر الباب بقوة يا فهمان! وعلى أول حاجز يصادفه/ها، هويتك يا جربان…. والذهول يقتات من حلم الجمال ويقرضه رويداً رويداً. وفي باحة الجامعة، كلٌّ منشغل في همومه، يلوي رأسه بين أكتافه/ها ويكاد لا ينظر لأكثر من متر أمامه، يا للعجب، أين ذهب كل الجمال الذي تخيلته/ها؟ أين جحافل الطلاب/الطالبات التي تلاحقني فتنة وجمالاً! وأتابع القول إنه وَهْم المِرْآة المستوية، فخيالها وَهْم رغم أنها تعكس الواقع بشكله الخارجي! وكل مَن ينظر لذاته بعين ذاته يصيبه دوار الوهم، بينما للواقع أبعاد مختلفة لا تعكسها تلك المِرْآة المستوية للذات، ولنقل حياتيًا مسطحة الرؤية.
الوهم اليوم يقتات من كل السوريين: وَهْم الحل السياسي مرة حسب جنيف 1/2012 الذي قضى أوانه بفعل وَهْم الحل وَفْق مقرَّرات 2254/2015 لمجلس الأمن، ووهم الحسم والانتصار العسكري المطلق سلطة أو معارضة عسكرية، ووهم العودة الآمنة لسورية بلا ملاحقات أمنية أو جور ينكّل بالبشر والحجر، وَهْم إعادة الإعمار بلا مقاربات سياسية لدول الجوار ومصالحها، فكيف لدول العسكر التي قضمت سورية من روسيا لإيران، لتركيا لأمريكا فإسرائيل قبلها! ووهم أن تتحسن معيشة وحياة وأمن البشر ما لم يحدث تغيير في البنية السياسية السورية، وهذه تعود بنا للوهم الأول وكأننا نعيش في دورة من الوهم لا تنتهي، وكأن حياتنا ورؤانا باتت مسطحة تماماً ومرآتنا لا تعكس إلا الوهم المتكرر… وهذا ولم ندخل في سلسلة الوهم الوجودي الفردي، حيث كل فرد يغالب رؤاه/ها في أن يصبح ذاتاً متفردة خلاف الآخرين، أو نموذجاً فريداً في الحياة، ورغم أنه حق الفرد والحياة، لكن ثمة ما يمكن أن يقال في هذا السياق بطريقة مختلفة تعكسها التفاعلات والإنجازات الإيجابية للفرد في محيطه مع الآخرين!
اليوم ثمة مقولات تتردد في الأفق السياسي العامّ مفادها: عودة العلاقات العربية السورية، التطبيع مع السلطة السورية، اقتصاد التعافي، وتبدو هذه في بداياتها الأولى انعكاسات لمرايا الواقع عن الحال السورية وليس وَهْماً يتم يتداوله محلياً! لكن، التسويق المعلن للخطوات التي بدأتها الأردن قبل أشهر من اليوم لسياسة التعامل مع أمر الواقع السوري، وما تلاه من زيارة إماراتية لها، لا يشير لهذه الانعكاسات بحقيقتها، بقدر ما يشير إلى خيال ضبابي أكثر منه مجرد وهم وفقط. حيث تشير التقارير والتصريحات الخاصة بهذه المصطلحات وما نتج عنها من أفعال، إلى مأساوية الوضع السوري أولاً، وإلى عدم جدوى إصلاحه سياسياً، وإلى ضرورة التعامل معه كأمر واقع لا كأمر مرغوب فيه! وأكثر من ذلك يحدد شروطاً واشتراطات على طبيعة السلوك والتصرفات السياسية، والأهم من ذلك مصالح تلك الدول من جراء تحقيق هذه الطبيعة من السلوكيات السياسية، ويأتي في مقدمتها: تحديد الوجود الإيراني في سورية، وإخراج كل الميليشيات والجنود الأجانب التي دخلت سورية لليوم، وبالتالي إيقاف التدهور العام في تغيير البِنْية السكانية وطبيعتها المعتدلة، كما وقف أن تكون سورية مصنعاً للمخدرات التي تغزو العالم. وثانياً تهيئة البيئة العامة الآمنة للسوريين لعودتهم من دول الجوار إلى سورية، باشتراط مراقبة الأمم المتحدة ذاتها والسماح لها بالوصول لكافة المناطق السورية، والأهم من هذا كله، هو اشتراط الضمانة الروسية في ذلك وضمان مصالحها "المشروعة" في سورية ثالثاً. فإن كانت الطلبات الأولى تعني ضرورات عمل سياسية تريدها دول المنطقة العربية خاصة الأردن والخليج، وهي عقدة سياسية بالنسبة للسلطة السورية، خاصة وما أظهرته من ارتباط عضوي مع إيران لليوم، وانفكاكها عنها يعني قصصاً سياسية تبدأ ولا تنتهي بسلام كما تريد السلطة السياسية، أو كما ترغب المبادرات ذاتها، خاصة وأن أمام إيران بدائل عدة عن الوجود العسكري خاصة في الجوانب المعتقدية الدينية أو المصالح الاقتصادية والقدرات الاستخباراتية أيضاً. فإن النقطة الأكثر ضبابية ووهماً هي عودة السيادة السورية، والمترافقة مع كلمة المصالح الروسية "المشروعة" بكل ثقلها ومفرزاتها الفترة الماضية العسكرية والسياسية والمالية والاقتصادية من وخلال سورية!
من نافل القول أن نقول إن المَرَايَا تكذب! لكنها تخدع، والمشكلة الأكبر الاستمرار بالوهم والخداع للذات قبل الآخرين، فهذه سياسة تدوّر الوهم وتجعله سلعة للبيع والشراء، فهل ستنجح الخطوات العربية هذه في عَكْس الحقائق الفعلية من منظارها، لا من المنظار التسويقي الواهم للتطبيع واقتصاد التعافي المُعلَن هذا؟ خاصة وأن النتيجة منه تنفيذ 2254/2105 في نهايتها!
Author
-
كاتب وباحث سوري، حاز درجة دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له عدد من الأبحاث العلمية المنشورة، وعدد من المقالات