نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
رغم أن مخيم “الزعتري” للاجئين السوريين في الأردن، تحوّل مع مرور السنين إلى مدينة متكاملة، ورغم أن أجواءه الرمضانية تكاد تقترب من أجواء المحافظات والمدن التي جاء منها لاجئوه، إلا أن رمضان الساكن غرف الذاكرة، المرتبط بالمدينة الأم، وحارة الأهل والأقارب، لا يمكن أن يعدله رمضان آخر.
هذا ما تبوح به عيون كبار السن من لاجئي المخيم البالغ عددهم 80 ألفاً أو يزيد، القاطنين بزهاء 26 ألف وحدة سكنية (كرفان) ويخدمهم أكثر من ثلاثة آلاف محل تجاريّ، وهذا ما يقوله بأسى الستيني منوخ متعب: “مهما تحسّنت الحياة في المخيم، ومهما زهت أجواء رمضانه بطقوس الشهر الفضيل ومسرّاته وخصوصياته، فإنها لن تقترب ولا بأي حال، من أجواء رمضان في مدينتي درعا”.
لا يريد السوريون في الأردن أن ينسوا أو يتناسوا المسافة التي قطعوها هاربين خائفين مفزوعين، وقد تركوا ربوع مسرّاتهم وبيوت أمانهم وملاعب طفولتهم.
إنها في شهر رمضان تتجلّى بوصفها المسافةَ بين مدفعيْنِ: مدفع الإفطار، ومدفع الحرب الذي دمّر وجودهم وشتّتهم في بلاد الله الواسعة.
أبو هايل الذي فقد بصره في المخيم بسبب مضاعفات مرض السكري والضغط، وأصبح عاجزاً عن توفير أي دخل للأسرة، يتذكّر رمضان حمص ويقول بأسى: “كل شيء في رمضان تغير عمّا كان عليه في سورية”.
الجار أبو محمد الذي قرّر -وقد تزايدت في مدينته الزبداني، جرائم النظام ومعها جرائم حزب الله الساعي أيامها للسيطرة على جبال القلمون- حَمْلَ أسرته وعِرضه والهرب بها إلى الأردن، يتحدث بإسهاب لـ “نداء بوست” عن رمضان الزبداني، وعن المسحراتي اللبناني أبو محمود الشيخة، الذي ترك بلدته في البقاع ليستأنس الإقامة في الزبداني.
أبو محمد الذي وصل الأردن في عام 2013، بعد مذبحة الكيماوي بقليل، يخبرنا بأسى أن أبو محمود قتل خلال المواجهات بين النظام والفصائل المعارضة، فورثه بتسحير الناس ابنه محمود الذي قُتل هو الآخر.
ولا ينسى أبو محمد الأجواء الجماعية في رمضان الزبداني، و(عزائم) الأقارب، و(لمّات) الأهل ومدفع رمضان الذي كان مُوكَلاً به أبو عمّار موظف البلدية الذي سكن لعيون المدفع فوق التلة العالية غرب الزبداني هو ومدفعه، يطلقه في الموعد المضبوط بلا تأخير ولا تقديم.
وعن أكلات رمضان يذكر أبو محمد أن لحم الضأن كان أساسياً في الزبداني، إضافة لخبزهم المميز الجامع في مواصفاته بين الخبز اللبناني والخبز السوري.
أبو محمد لا ينسى إعداد عصائر الشهر، وفي مقدمتها عرق السوس، وطبعاً التمر هندي والخروب وجلاب الحبايب وغيره.
ويذكر لنا أنهم كانوا يعدون (قمر الدين) بأنفسهم ولا يشترونه جاهزاً في باكيتات، فيطبخون المشمش المضاف إليه كمية من السكّر، ثم ينشرونه لتجفيفه تحت أشعة الشمس المباشرة.
أما في الرمضانات التي تأتي أيام الثلج فكل الحارة تتكافل، وفق أبو محمد، مع بعضها بعضاً، وتصبح (العونة) فعلاً لا خيار فيه، تماماً كما لا خيار من تناول وجبة السحور، فأهل حارته في الزبداني كانوا إن لاحظوا بيتاً غير مضاء يذهبون إليه ويدقون على بابه لإيقاظ أهل هذا البيت، وكما لا خيار في صلاة التراويح جماعة في المسجد.
أبو محمد يقول: إن أبو محمود “كان يأخذ (اللي فيه النصيب)، بعضنا يعطيه نقوداً، بعضنا يعطيه طعاماً أو حلويات، حيث كان أبو محمود يحمل معه في جولات سحوره كيساً كبيراً يجمع به هذه العطايا”.
من حلويات الشهر في الزبداني، يعدد أبو محمد، إضافة للقطائف التي يلتقي حولها معظم المسلمين على اختلاف بلدانهم: الهريسة، والزلابية (لفظها بنكهة خاصة)، وهي، بحسب أبو محمد، العوّامة على حجم أكبر وأكثر طراوة.
أما الخصوصية التي تميز رمضان الزبداني عن أي رمضان آخر، فهي أنهم أيام سكِينة إقامتهم في بلدهم قبل الحرب والدمار، كانوا يغذون السير كل يوم في رمضان بعد صلاة العصر، يتوجهون لنبع بقين (وهذه أيضاً لفظها بنكهة خاصة)، يملؤون عبوات الماء من عين النبع، ويعودون محمّلين بأعذب ماء ذقته أنا شخصياً في سورية.
أما المعمول والكعك فهو في رمضان “إجباري” على حد قول أبو محمد الذي لم يخلُ تذكّره رمضان بلاده من دمعةٍ ملموحةٍ بعيون الروح.