بالكاد مدّ العالم رأسه للخروج من نفق جائحة كورونا، حتى بدت أزمة أخرى لا تقل تداعياتها الاقتصادية خطراً عن سابقتها، حيث تعرضت أسواق الطاقة والحبوب لتهديدات رئيسية عززت من أسعارها إلى مستوى غير مسبوق، وباعتبار هذه السلع مكونات رئيسية في الحركة والنقل وصناعة الخبز ومعظم الأساسيات نجد أن بقية السلع ارتفعت بشكل كبير حتى باتت القدرة على تأمين الأسرة لاحتياجاتها موضع شك.
المرونة المدهشة التي أبدتها البشرية خلال فترة الجائحة تؤكد أن القدرات الإنسانية ومنطق التمسك بالحياة هو المنتصر في الظروف الصعبة، ولا شك أن الجائحة خلفت عشرات الدروس على المستوى السياسي والصحي والاقتصادي وكذلك مستوى الحياة الاجتماعية، ولعلنا نستطيع أن نأخذ بعضاً من هذه الدروس الاقتصادية إلى مرحلة أزمة الحرب “الروسية الأوكرانية”، وأبرزها ما يلي:
1-أهمية المنتج المحلي: خلال الأزمات تتعثر العلاقات الاقتصادية الدولية وتتراجع القدرة السلسة على النقل، وبفعل ارتفاع أسعار النقل خلال الحرب “الروسية الأوكرانية”؛ نجد أن السكان يسعون أكثر لاستكشاف المنتجات المحلية، وهذا الأمر يشكل ظاهرة فريدة فعلياً، فبعد التوسع الكبير الذي شهدته الأسواق وثورة الاتحادات الجمركية والتسهيلات التجارية نجد أن الأساس لا يزال هو المنتج المحلي.
2-المزارع الملك: في زحمة البحث عن الغذاء هناك مشهد لرفوف فارغة ومشهد آخر لمزارع لا يزال يسكب الحليب، ويجمع البيض، ويحرث الأرض، وسط تطلُّعات الجمهور لإنتاجه، ودعوات الجميع له بالوفرة والبركة، وكأنه ملك يتربع على عرش أرضه ليخطب الجميع وده.
3-التنويع ثم التنويع: تعلم العالم من الجائحة أن انقطاع سلاسل التوريد هو كارثة حقيقية تهدد أمن وسلامة المجتمع، والبديل عن ذلك هو إيجاد مجموعة من السلاسل البديلة التي يمكن أن تعمل في وقت الأزمة، واليوم -وأكثر من أي وقت سبق- ترى الحكومات والشركات أن تنويع مصادر الغذاء والسلع هو مسألة حيوية تتيح لها عدم وضع رقبتها بيد مُنتِج واحد تنكشف عورتها نتيجة خسارته أو أزمته.
4-هيمنة الخوف: الخوف كان أحد المسائل التي عمّقت الأزمة الاقتصادية في أيام الجائحة، ولعلنا لم ننسَ كيف تدافع الناس إلى الأسواق ليشتروا كل ما يمكن شراؤه، ومع الحرب الروسية الأوكرانية نجد أن الخوف لا يزال يسيطر ويتحكم بالسلوك الاستهلاكي، وهذا الخوف رفع من سعر المنتجات ولا يزال يساهم بذلك، ولعل المستهلك يجب أن يكون أكثر حكمة تجاه قضية الخوف، فالسوق يمكن أن يجد آليات التعويض بوقت قصير ولن تنفد المنتجات في النهاية.
5-الطوارئ لم تَعُدْ كذلك: مع كثرة الأزمات التي مر بها العالم في الأعوام الثلاثة الأخيرة وظروف عدم اليقين التي سادت؛ نجد أن الطوارئ أصبحت مسألة حاضرة لدرجة اعتيادنا عليها، فخطط الطوارئ التي توسعت من حيث التفاصيل والأهمية أصبحت حاضرة دائماً عند الأفراد والمؤسسات وكذلك الحكومات لدرجة أنها لم تعد إجراءات طارئة، بل أصبحت إجراءات اعتيادية لا بُدّ أن يتأقلم الجميع معها.
6-أهمية صغار المنتجين: رغم أن الجائحة أثرت كثيراً في الأعمال الصغيرة والمتوسطة حيث تعرضت معظم الأعمال لخسارات واسعة إلا أن الأعمال الصغيرة أثبتت مرونتها وقدرتها على الانحناء أمام العاصفة لتعود وتثمر من جديد، وهو ما يعني أهمية رعاية المنتجين الصغار لما لهم من أهمية في تأمين ما يطلبه المستهلكون.
ولا شك أننا وجدنا خلال فترة الجائحة أن الحكومات التي رفعت يدها عن الأسواق في الدول الرأسمالية؛ عادت لتلعب دوراً فاعلاً في تنظيم الأسواق، وأثبتت أنها الفاعل الرئيسي خلال الأزمة، لذا فإن القدرة على الاتصال بالجمهور التي حققتها وأسلوب القيادة الذي مارسته وحجم الانصياع الذي حققه المواطنون هو أمر عجيب فعلاً ويؤكد على استمرار كفاءة الحكومات باعتبارها الفاعل الأبرز المساهم في رسم المشهد وتشكيله من جديد خلال الأزمة الجديدة، وبالتالي تقع على عاتقها دائماً مسؤولية نقل الدروس والعِبَر وتطبيقها.
ومع قُرابة شهرين على أزمة الحرب “الروسية الأوكرانية” يتطلع الجميع للخروج منها أقوى من أي وقت سابق، ولكن هذا التطلع لا يجب أن يلغي النظر إلى الواقع الصعب الذي نعايشه ومن حسن حظنا أننا خرجنا بدروس جيدة لا تزال حاضرة في أذهاننا.