إن البحث في ظاهرة التطرف الاسلامي أمر بالغ الصعوبة في هذه الأيام. لسبب بسيط وواضح: أن قوى النظام الدولي المسيطرة والمهيمنة تريد إبقاء المسلمين محكومين بفاشيات وأنظمة عسكر وجريمة وفساد ونهب، ليس لكونهم مسلمين بل لكونهم في مناطق نفوذ وثروات. لنخرج قليلا من العالم الإسلامي ونرى مناطق أخرى سكانها ليسوا مسلمين ماذا حدث بها؟ الهولوكست، رواندا، فنزويلا الآن.
لهذا أمام هذا الضخ الإعلامي، يصعب على أي باحث مقاربة هذا الملف دون أن يغوص في تقييمات وشعارات ما يتداوله هذا الضخ الإعلامي حول التطرف الاسلامي. أسهل هذه العناوين التي تحاول اختصار الإشكالية، هي التي تنص على أن الإشكالية "ثقافية" أو أنها "إشكالية تتعلق "بجوهر الإسلام كدين متطرف".
نقاش التطرف الإسلامي بالعودة لتاريخ التجربة الإسلامية منذ لحظة انبثاقها في غالبيته هو عبارة عن عملية تضليل لها دوافع عدة، أحيانا لاعتبارات دينية مضادة أو طائفية أو ركوب موجة الإسلاموفوبيا الغربية أو ركوب موجة السلطات الشرق أوسطية.
لا دين علماني بما فيها الأديان ذات التعاليم السرية أو الباطنية للطوائف الدينية في كل الأديان أيضا. المسيحية هزمت في أوروبا ولم تتعلمن، دول أوروبا المنتصرة في عصر الثورات البرجوازية هي التي انتصرت وتعلمنت.
إن نقد الفكر الديني والسخرية من الرموز الدينية، لا تأتي بمعزل عن اشتراطات الناقد والمنقود المشدودة للواقع المعاش في لحظة العملية النقدية ذاتها. في هذا الإطار تبدو اللحظة النقدية بوصفها عملاً على الحاضر ومن أجل المستقبل. اللحظة النقدية هذه حتى لو لجأت للتاريخ إنما هاجسها الأساس هو الحاضر من أجل المستقبل. انطلاقا من هذه المعادلة لا يمكننا التعامل مع الفكر النقدي إلا من خلال ميزان هذا الحاضر نفسه واشتراطاته أيضا. كأن تردد صيغ أن الإسلام مشكلة منذ 1400 سنة أو منذ نشاته.
لم يكن الإسلام كذلك، وبقيت إمبراطوريته السياسية قائمة حتى هزمت على يد إمبراطوريات أخرى. هذه المسيرة مرت بها كل الإمبراطوريات في العالم والتاريخ. ما بنته هذه الإمبراطورية لا يختلف كثيراً عما بنته الامبراطوريات السابقة له أو اللاحقة حتى نهاية العصر الديني في أوروبا. هنا يكمن التضليل في تمييز الإسلام كدين متطرف ومتوحش منذ نشأته.
العملية النقدية تتطلب النظر لموقع الناقد ورسالته السياسية والأيديولوجية وليس فقط الموضوع أو الظاهرة المنقودة. مع التفريق بين النقد وبين النقض. ما يحدث يتراوح بين النقد بوصفه جزء من اعتبار المجتمع السوري مثلا موضوع تغيير وأداة لهذا التغيير، فيكون النقد للظواهر السلبية التي تقف حجر عثرة في تغيير المجتمع. أما النقض فهو الذي نراه يركز على هدم واقتلاع قسم من المجتمع نفسه. وأحيانا هنالك من يجمع بين النقد وبين النقض بوصفه هدماً كلياً.
عند كل منعطف ما في دهاليز ما نعيشه كشعوب عربية وشرق أوسطية، تخرج أقلام لتقول إن العلة في العرب أو العلة في المسلمين أو العلة في شعوب الشرق. مفهوم أن يخرج مستشرق ما ليقول ذلك. لكن من غير المفهوم أن يخرج عربي أو كردي أو ايراني، مسلم أو مسيحي ليؤكد هذه المقولة الاستشراقية. إن العلة في قتلنا وتهجيرنا تكمن فينا؛ في ثقافة شعوبنا وفي أديانهم وطوائفهم وأقوامهم. العلة في تخلفنا هو "نحن". في فصل" جيني" مقيت بين إنسان متقدم وإنسان متخلف، عنصري التوجه في جعل التقدم والتطور حكراً على الإنسان الأبيض.
عالج هذا الموضوع كثر من المفكرين العرب وغير العرب، من بينهم المفكر الفلسطيني إدوار سعيد في كتابه الاستشراق. من تبنوا الاستشراق جملة وتفصيلاً يندرجون تحت عنوان "الاستغراب" كجزء من الماكينة الغربية في تبرير القباحة. هذا المقال ليس معنيا بإعطاء مراجعة لما كتبه الطرفين. بل هو يحاول مناقشة بعض من جوانب التضليل التي تخدم بشكل خاص موقف الغرب من الابادة الأسدية – الدولية التي تعرض لها شعبنا ويتعرض لها منذ عشر سنوات. انطلاقا من هذا الحدين القصويين.
"أن اليمينَ الاوروبي البديل الكاره للأجانب ذا التوجه العنصري، يمثل أفضلَ حليفٍ للجهاديين؛ لأنه يعزِّز استراتيجيتهم الرامية إلى الاستقطاب المجتمعي. فكلما كانت الصدامات العرقية والدينية أقوى، كان من الأسهل على الجهاديين تجنيد أشخاص جدد". كما يقول الباحث الايطالي البيرتو باجاني.
هذا جانب يفسر مثلا ظاهرة دعم الأحزاب اليمينية لبشار الأسد وزيارات قادته لدمشق في فترات كان فيها جيش الأسد يرتكب الإبادة بحق الشعب السوري. فرنسا مثلاً تركت ولا تزال حتى اللحظة، الرابط القوي بين مسلميها وسلطات بلدانهم الاصلية التي هي مثال للديمقراطية وحقوق الانسان والحريات! هذا الرابط لعب ويلعب دورا في تحديد الاتجاهات السياسية لهؤلاء المسلمين الفرنسيين. ينطبق هذا الكلام على بلجيكا وهولندا وبشكل أقل على ألمانيا وبقية الدول الغربية.
لا تزال بعض السلطات العربية وإيران وجزئياً باكستان وتركيا هي من تبني المراكز الإسلامية والجوامع في أوروبا وتمولها، حيث نادرا ما تجد شخصية إسلامية فردية أو اعتبارية فاعلة في أوروبا لا تدعمها سلطة شرق اوسطية.
مثال إيران تدعم مراكز تشدد شيعية وسنية. اما تركيا منذ انتخاب اردوغان فتدعم النزعة القومية التركية حتى خلال دعمها لبعض الأنشطة الإسلامية في الجاليات التركية. لهذا نقاش الحالة التركية، يختلف عن نقاش الحالة الباكستانية لكون هذه مرتبطة بالصراع في أفغانستان والمنطقة المحيطة بها. أما بقية السلطات الإيرانية والعربية إنما تحاول إيجاد أدوات ولوبيات لدعم مشروعها السلطوي الفاشي داخل بلدانها. هذا يتم أحيانا بنشاطات تدعم هذه السلطة أو تلك داخل أوروبا، او حتى الدعم لجرائم ارهابية داخل دول اوروبا التي تشعر هذه السلطات أن موقفها يشكل خطراً عليها، أو أنها تحرك تجنيد شباب في تنظيمات ارهابية.
تجربة داعش نموذجاً حياً. حيث شاركت فيه هذه الدول إلى جانب إدارة أوباما وبعض من الإدارات الغربية وليست فرنسا فقط بل بريطانيا أيضا. كل من ذهب من شباب هذه الدول للقتال مع داعش كان يتم تسهيل وصوله لتركيا ثم السماح له بالدخول لسوريا أو العراق وبمعرفة السلطات التركية والعراقية والسورية. منهم من دخل أيضا عبر مطار دمشق الدولي او بيروت حتى.
المثال الأسطع هو قرار ألمانيا باعتبار حزب الله حزباً إرهابياً بجناحيه السياسي والعسكري، وما تبع ذلك من مداهمات لمراكزه في ألمانيا ومصادرات لمواد ممنوعة واعتقالات وتحقيقات،
فيما رفض ماكرون هذا الإجراء ولا يزال يعتبر حزب الله شريكاً له في العملية السياسية في لبنان. لاتزال مراكزه في فرنسا ناشطة.
في نضال الأفارقة الأمريكيين ضد التمييز العنصري، برز لديهم تيارات عديدة سياسية، منها أقلية دعت للكفاح المسلح وقامت بعمليات اغتيال حزب الفهود السود. "أزمة المسلمين" لا علاقة لها بدينهم، بل لها علاقة بمن يسيطر على مصيرهم. كل السلطات في دول يسكنها مسلمون، ليست سلطات إسلامية، بل بالعكس هي سلطات ساعدها الغرب للوصول إلى الحكم. ازمة المسلمين هي في غياب دولة القانون والحريات والعلمانية، من يمنع تأسيسها هي هذه السلطات المحمية من الغرب ويساعدها نخب تتملق الغرب.
تحييد الدين ورفع السلطات السياسية يدها عنه من أجل تأسيس دولة قانون وحريات ونظام ديمقراطي علماني هو المطلب الذي يجب العمل عليه، وإن كان الغرب صادقاً ليدعم بدلاً من تأسيس داعش التيارات التي تحاول تأسيس مثل هذه الدولة.