في مقابلة له مع صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر من العام 2019، وصف جو بايدن الرئيس التركي بالـ "مستبد"، مشيرا إلى أنّه سيدعم المعارضة التركية للإطاحة به من الحكم. وقال بايدن في تصريحاته التي تمّ تداولها مُجدداً في فيديو مصوّر له قبيل إطلاق حملته للإنتخابات الرئاسية الامريكية نهاية عام 2020 “أعتقد أنّ ما يجب علينا فعله هو اتباع منهجية مختلفة جدا معه الآن، وأن نجعل الأمر واضحاً، وهو أننا ندعم قيادة المعارضة…عليه أن يدفع الثمن…على واشنطن أن تشجع قادة المعارضة التركية ليكونوا قادرين على التغلب على أردوغان والإطاحة به"، قبل أن يستدرك "ليس من خلال انقلاب، ليس من خلال انقلاب، بل من خلال العملية الانتخابية".
أثار موقف بايدن هذا زوبعة من الانتقادات على المستوى الرسمي داخل تركيا، واعتبر الناطق باسم رئاسة الجمهورية إبراهيم كالين أن تصريح بايدن "يستند الى جهل عظيم، وغطرسة، ونفاق". أمّا المعارضة التركية، فلم تخرج هي الأخرى عن هذا السياق، بل بدا أنّ سقفها مرتفع أيضاً، فقد دانت جميع أحزاب المعارضة اليسارية والليبرالية والمحافظة التصريحات، ووصفتها بأنّها تدخّل في الشؤون الداخلية. موقف المعارضة القوي من التصريحات يهدف في جزء منه الى الدفاع عن نفسها بعد أن صوّرتها تصريحات بايدن وكأنّها أداة في يد الغرب وتعمل لمصلحته.
هناك من يشير الى أنّ مثل هذه التصريحات المعادية لتركيا والحكومة التركية لن تعكس على الأرجح سياسة إدارة بايدن على إعتبار أنّها مخصّصة للإستهلاك المحلّي. لكن في المقابل، هناك أيضاً من يشير الى أنّ تجربة إدارة أوباما -التي كان فيها بايدن نائباً للرئيس- وطريقة تعاملها مع تركيا لا تبعث على التفاؤل خاصة سكوتها على الإنقلاب العسكري الذي جرى ضد الحكومة التركية المنتخبة في العام 2016.
وبالرغم من أنّ تركيا كانت ربما من أواخر الدول التي هنّأت بايدن في فوزه بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتّحدة الأمريكية، إلا أنّ الناطق باسم الرئاسة التركية كان قد قال إنّ اتصالات أنقرة بالفريق الانتقالي بالولايات المتحدة، حتى حينه إيجابية للغاية"، مضيفا أنّهم "يريدون تطوير علاقات جيدة مع تركيا وفتح صفحة جديدة".
وفي المقابل، أبدا المسؤولون الأتراك إنفتاحاً على التعامل بإيجابية مع إدارة بايدن، وأعادوا التموضع في بعض الملفّات الإقليمية بما يضمن تسهيل الحوار مع واشنطن خلال المرحلة القادمة. وقد شملت هذه التعديلات التوتر مع اليوناني شرقي البحر المتوسط، والاستعداد للانخراط في جولة محادثات جديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحل المشاكل العالقة والتذكير بدورها في الناتو تحجيم التوسع الروسي بمنطقة الشرق الأوسط.
لكن ووفقاً لبعض التقارير، فان بايدن، تجاهل طلباً من أردوغان لإجراء مكالمة هاتفية بينهما، وذلك قبل أيام قليلة من توليه الرسمي لمنصب الرئاسة بالبيت الأبيض. وبعد وصوله الى البيت الأبيض وتشكيله فريقه الخاص، بدا أنّ الإدارة الامريكية الجديدة ترسل رسائل متضاربة بشأن شكل السياسة التي ستّتبعها مع أنقرة، وطريقة حل الخلافات العالقة بينهما من جهة أخرى.
في أوّل جلسة إستماع له أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ لمناقشة ترشيحه وزيراً للخارجية في 19 يناير 2021، أشار أنتوني بلينكن الى تركيا بقوله "الشريك الإستراتيجي المزعوم"، فقال "فكرة أن يكون ما يسمى بشريك استراتيجي لنا على وفاق مع أحد كبار منافسينا الاستراتيجيين في روسيا غير مقبولة"، مضيفاً "أعتقد أننا بحاجة إلى النظر لمعرفة تأثير العقوبات الحالية ثم تحديد ما إذا كان هناك إجراءات أخرى يتعين القيام بها".
بعدها بأقل من 10 أيام، تحدّث مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان مع وبيورن سيبرت مدير مكتب رئيسة المفوضية الأوروبية، تلاه بيان للبيت الأبيض يشير الى موافقة الطرفين على العمل سويّاً على المواضيع التي تثير القلق المشترك لهما بما في ذلك الصين وتركيا.
هذه المعطيات المتضاربة تفترض أنّ إدارة بايدن الجديدة ستكون بمثابة تحدّي وفرصة في نفس الوقت لتركيا. تحدّي، لأنّه سيكون على أنقرة وواشنطن أن تتفاهما في الملفّات الخلافية بينهما، وفرصة لانّ بعض الأولويات لدى الطرفين قد تخلق البيئة المناسبة لتجاوز الخلافات، وتسمح ببناء أجندة مشتركة تخدم المصالح المشتركة للبلدين.
هناك عدّة ملفات تتناقض فيها سياسة الديمقراطيين التقليدية مع مصالح تركيا الاستراتيجية لاسيما فيما يرتبط بالعلاقة مع ميليشيات "ي ب ك" الكرديّة وملف منظومة الدفاع الصاروخية الروسية (اس-400)، والعلاقة مع روسيا، والملفات العالقة الأخرى كملف خلق بنك.
علاوةً على ذلك، يثير موقف بايدن السابق من العراق حساسية كبيرة في أنقرة، إذ سبق أن دافع بايدن عن فكرة تقسيم العراق وإنشاء كيان كردي فيه وعارض انسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا. إن إعتمد الرئيس الأمريكي الجديد مثل هذه السياسة الآن، فلا شك أنّه سيدخل في صدام مع أنقرة خلال المرحلة المقبلة.
علينا ألاّ ننسى كذلك أن بايدن يتمتع بعلاقات قويّة مع اللوبيات اليونانية والأرمينية والإسرائيلية في واشنطن، وجميعها معادي لتركيا. هو كان قد دعم باستمرار مشروع القانون الأرمني ضد أنقرة، كما أنّه عبّر قبيل إنتخابه رئيساً عن معارضته لسياسة تركيا شرق البحر المتوسط وفي ليبيا، وإذا ما تمسك بمثل هذه الأمور فسيعني ذلك أنّ الإشتباك السياسي سيكون قاسياً.
لكن أنقرة تؤمن أنّ الصورة ليست سوداويّة بالكامل، وأنّه بالإمكان تجاوز العقبات اذا ما كانت الإدارة الامريكية الجديدة منفتحة فعلاً على التوصل الى حلول، وتمتلك الإرادة اللازمة لتحقيق ذلك، وتأخذ بعين الإعتبار أنّ تركيا حليف إستراتيجي لها في المنطقة.
هناك بعض المؤشرات التي توحي بأنّ إدارة بايدن تريد أن تحتوي موسكو وأن تصدّ التوسّع الروسي في منطقة الشرق الاوسط بعد أن تمدّدت روسيا بشكل ملحوظ منذ عهد أوباما في سوريا والبحر المتوسط وليبيا. ومن نافلة القول أنّ الطرف الوحيد القادر على مساعدة واشنطن على تحقيق هذا الامر في حال كان لديها نيّة حقيقية هو تركيا نظراً لتواجدها المباشر على الأرض في مواجهة روسيا أولا، ولانّها القوّة الإقليمية الوحيدة ذات الوزن الثقيل الذي باستطاعته تقديم شيء للجانب الأمريكي في هذا الملف ثانياً.
التوجه لإحتواء روسيا يعني انّ أوكرانيا كذلك ستعود محوراً للإهتمام السياسي في واشنطن لاسيما أنّ جو بايدن كان المبعوث الرئاسي الخاص الى أكرانيا في عهد أوباما. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار انّ تركيا من الدول التي ترفض ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم، وأنّ أنقرة كان قد بنت خلال السنوات القليلة الماضية علاقات قوية مع اوكرانياً، فهذا يعني أنّ ملف أوكرانياً قد يساعد على بناء أجندة مشتركة.
وبخلاف إدارة ترامب، فانّ إدارة بايدن تركّز على اهمّية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتريده قوياً ومتماسكاً، ومن البديهي القول كذلك انّ مثل هذا الأمر لن يحصل في حال إستمرت الخلافات مع ثاني أكبر عضو في الحلف وهو تركيا. وأخيراً، فانّ رغبة إدارة بايدن في خفض التوتر وتحقيق الأمن والإستقرار في منطقة الخليج يتقاطع من دون شك مع مصالح تركيا في تلك المنطقة.
ممّا لا شك فيه أنه:
1) سيغلب على الكونغرس على الأرجح الطابع العدائي لتركيا نظراً لطبيعة عمل اللوبيات والإنحيازات الأيديولوجيّة فيه.
2) تركيا شريك صعب لا يقبل النظر إليه بدونيّة أو التعامل معه وفقاً لمعايير مزدوجة أو بمنطق الأوامر. على الولايات المتّحدة أن تقدّر هذا الأمر وأن تستوعبه إذا ما أرادت علاقات سلسلة وفعّالة بين الطرفين.
3) على واشنطن أن تأخذ بعين الإعتبار ايضاً السياسات الداخلية في تركيا، اذ من المنتظر أن يشهد العام 2022 انتخابات شاملة في تركيا، وهذا يعني انّ لا مصلحة للرئيس والحزب الحاكم في الظهور بمظهر ضعيف والتراجع في ملفّات خطيرة وحسّاسة، ولكنه يعني في نفس الوقت أنّهم سيكونوا مستعدين لعقد صفقات تحقق مصالح البلدين.
باستطاعة الولايات المتّحدة إلحاق الضرر بتركيا، لكن مثل هذا الأمر لن يؤدي الى تراجع أنقرة بقدر ما سيؤدي الى دفعها بشكل متزايد باتجاه روسيا والصين. بمعنى آخر، فانّ مفتاح التعامل مع تركيا يكمن في واشنطن وليس في أنقرة. إذا ما أرادت الولايات المتّحدة من أنقرة ان تبتعد عن موسكو، فكل ما عليه فعله هو التعاون البنّاء مع تركيا كحليف استراتيجي وأخذ المصالح التركية بعين الإعتبار، أمّا اذا ما أرادت من تركيا أن تبتعد عن الغرب وتقترب من موسكو فكل ما عليها فعله هو فرض المزيد من الضغوط والعقوبات، علماً أنّ التداعيات السلبية المترتبة على هذا الخيار لن تقف عند حدود تركيا بل ستتعدّاها الى المصالح الحيوية والاستراتيجية لأمريكا في المنطقة.
هذه هي الرسالة التي من المتوقع أن يؤكّد عليها الجانب التركي في علاقته مع إدارة بايدن خلال المرحلة المقبلة.