فلسطين ولبنان حارتان من حارات سورية الكبيرة التي تم تمزيقها وتفتيتها على مراحل خلال المئة عام الماضية، وقبل ذلك كانت مركز الإشعاع الحضاري لواحدة من أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية؛ الحضارة العربية الإسلامية التي انطلقت من دمشق عاصمة الأُمويين.
يختلف السوريون عن غيرهم من الشعوب العربية، وحتى عن الفلسطينيين أنفسهم، فالحمولة الثقافية التي على عواتقهم أكبر وأكثر ثقلاً وتأثيراً، ويمكن للفلسطينيين الحديث عن تطبيع مع الإسرائيليين، وعملية سلام واتفاقات طويلة المدى أو قصيرته، بينما لا يمكن للسوريين القفز على كيانهم الوجداني والانتقال إلى طاولة التطبيع كما فعل أشقاء وأصدقاء آخرون لهم بجرّة قلم.
ليس هذا بسبب الجولان الذي تحتله إسرائيل من الأراضي السورية وحَسْب، فقد كان قائماً قبل يوم الخامس من حزيران عام 1967، واستمر بعده، وبقي السوريون ينظرون إلى القضية الفلسطينية على أنها الأهم والأبرز لديهم.
بوسع الفلسطينيين الذهاب نحو محاور عديدة في العالم، ومن بينها المحور الإيراني، كما فعلت حماس، لكن ليس سهلاً على السوريين فعل ذلك، حتى إنْ أرادوا، وحتى إن اقتضت السياسة والبراغماتية الإقدام على شيء مماثل، هكذا هو حالهم، وهكذا هي الحسابات التي تُقيِّدهم وتضبط حاضرهم ومستقبلهم.
الغرب يعرف هذا منذ أن عاد إلى الشرق بعد غياب طويل، وبعد قرون من طرد الفرنجة وحملاتهم التي عُرفت بالصليبية، ليجدوا أن أول مَن حاربهم ورفض وجودهم كان السوريون، وفي مقدمة أولئك المسيحيون أنفسهم الذين لم تنطلِ عليهم كافة الشعارات الدينية التي رفعها الغرب الأوروبي ومن بعده الأمريكي والشرق البعيد الذي كانت روسيا تمثله لتحريرهم وتحرير أماكنهم المقدسة.
إسرائيل بدورها تدرك أن اجتثاث هذا الوَعْي من السوريين مهمة تكاد تكون مستحيلة، لا لأنهم عِرْقٌ خاص بجينات نوعية، بل تعود الثقافة والهُوِيَّة المتجذِّرة في الشخصية السورية لتفعل فعلها وتترك بصماتها على كافة خياراتهم.
يستطيع أي زعيم إسلامي -يعرف السوريون درجة دعمه لهم- الوقوف إلى جانب الرئيس الإسرائيلي، دون أن يشعر السوريون بالأذى بسبب ذلك، لكنهم لا يتخيلون أنفسهم في هذا المقام، وإنْ فعل مع الإيراني والروسي فهم لا يحسبون عليه ذلك، وإن تجرَّأ نفرٌ منهم -مهما كان حجمه ومستواه وتأثيره- على الإقدام على ما نسبته واحد بالألف من مواقف كهذه فسيكفرونه سياسياً وأخلاقياً ووطنياً على الفور، وهم مُحِقّون بذلك، فهو يجرح شيئاً فريداً عندهم لا يتمتع به غيرهم.
وكحال إسرائيل، فإن إيران تعرف أنها لن تتمكن من السيطرة على هذه المعضلة في الشخصية السورية، ولذلك هي تعمل كحائك السجاد على تغيير فكريّ في الخارطة المجتمعية السورية، لا حلّ سوى هذا أمامها، التغيير الديموغرافي والتهجير والتشييع القسري.
ما يراه أعداء السوريين في الشخصية السورية، أكثر وضوحاً أمام أعينهم مما هو أمام أعين السوريين أنفسهم الذين يعيشون تشويشاً طال به الزمن، انظر إلى ما تسمى بـ ”قسد“ التي يهيمن عليها ”بي كا كا“ وهو حزب أجنبي ترك كردي إرهابي يقود ميليشيا متعددة الجنسيات، ما تستطيع “قسد” فعله، لا يتقبله السوريون، لا على المستوى الأفقي ولا في حسابات السياسة، لا يستطيع السوريون محاربة الإرهاب باتهام المسلمين السُّنة كلهم بالإرهاب، ولا يمكن لهم تجريف القرى والمدن لأنهم يشعرون أنها تعنيهم وتخصهم، ويدركون أنهم ليسوا عابرين على أرضهم كغيرهم من الشراذم التي جاءتهم من كل حدب وصوب.
ما فعله بهم نظام الأسد الأب ومِن بعده الابن، اتضح بعد خمسين عاماً أنه هشّ وقابل للزوال بمجرد أن ترتفع الأصوات بطلب الحرية والكرامة، كان هذا مفاجئاً لكل هؤلاء الذين حسبوا أنهم أطبقوا على السوريين، وعلى الرغم من كل التدمير الممنهج والاعتقالات والتعذيب والقصف والبراميل والكيماوي، لم تُسجّل حادثة واحدة قامت بها المعارضة السورية المسلحة باجتياح منطقة ذات طابع طائفي أو عِرْقي وإبادتها أو ارتكاب مجزرة بحق أهاليها. وهذا وحده كفيل بالبرهان على القوى التي تتحكم بخياراتهم في العمق، نفسياً وأخلاقياً.
يستطيع اللبنانيون تقبُّل الانمساخ إلى دولة الميليشيا، وأن يكون لبنان محافظة إيرانية، ويستطيع العراقيون تحت ذريعة الرايات الحسينية تقبُّل ابتلاع إيران للعراق وإعلانها نصرها الفارسي باسترداد عرش كسرى من العرب بعد أربعة عشر قرناً. ويمكن للخليجيين تدشين برامج التطبيع مع الإسرائيليين وترك الأبواب مشرعة أمام الاستثمارات الإسرائيلية، لكن هذا لن يتحقق من غير السوريين. فالكلمة الأخيرة لهم وحدهم، ومردّ هذا إلى إدراك العرب أيضاً لقيمة سورية ودمشق والسوريين عموماً ودورهم التاريخي كسقف للعالم العربي الإسلامي.
إن تدمير الشخصية السورية، المشروع الجاري منذ عقود والذي بدا بشراسة أكثر خلال أعوام الثورة السورية الـ 11 الماضية، هو المفتاح الذي يعتقد هؤلاء جميعاً أنه بوسعه أن يفتح لهم أبواب
المشرق بل الوطن العربي كله، وهذا المشروع الذي ينخرط فيه أطراف -يرون أنفسهم أصغر من قضاياهم، مثل حماس وفتح وغيرها- لن يُكتب له النجاح، فالزمن السوري أكبر وأطول من كل تلك الظواهر العابرة.
Authors
-
إعلامي وكاتب سوري يقيم في ألمانيا - مدير تحرير نداء بوست، صدر له العديد من الكتب والأفلام الوثائقية والبرامج الحوارية
-