في العلاقة بين الاستخبارات والسياسة
يحمل العقل الجمعي للسوريين صورة نمطية مغلوطة عن مفهوم "الأمن" من حيث الدور ومهام تلك الأجهزة.
ويقيسون ما عرفوه عن الأجهزة التابعة لنظام الأسد، واستئسادها عليهم، لما تقوم به من اعتقالات تعسفية، وتعذيب منفلت العقال؛ مع الأجهزة الأمنية لما عانوه وعايشوه بأنفسهم في الدول التي لجؤوا إليها، أو من خلال متابعة بعض الأجهزة ذائعة الصيت في رسم سياسات الدول التي تنتمي إليها كـ (CIA الأمريكي، وmi6 البريطاني...) والتي تختلف اختلافاً كبيراً في المهام والهيكلية وإعداد الكوادر العاملة فيها، عما هو الحال لدى نظام الأسد.
يدل علم السياسة في أحد تعريفاته على أنه السعي والتنافس للوصول إلى السلطة، لتحقيق الأهداف المرتبطة بالقيم والموارد داخل المجتمع كالدخل والقيم الاجتماعية وصولاً لتحقيق مكانة الدولة، بينما يعني الأمن مفهوماً أشمل تتضافر كافة المؤسسات على اختلاف نشاط عملها "السياسية أو التعليمية أو الصحية أو الاقتصادية أو الإعلامية..." لتحقيقه، وتحقيق الاستقرار العام للمجتمع من التهديدات الخارجية أوالداخلية.
وتتنوع مهام الأجهزة الأمنية، من حماية النظام السياسي القائم في البلاد كما كان دور المخابرات التركية في إفشال انقلاب تموز 2016، وصولاً إلى تحديد الأماكن التي يجب ارتداء الكمامة فيها عند تخفيف الإجراءات والتدابير الاحترازية المتخذة لمواجهة "كورونا"، حيث أخذ جهاز الأمن الوطني الماليزي على عاتقه ذلك الأمر.
وتضم الأجهزة الأمنية في الدول المتقدمة، أو التي تسعى لتحقيق نهضتها ونموها، متخصصين في اللغة والتاريخ والاجتماع بهدف تحليل المواد والتقارير والبيانات عن الدول التي تسعى هذه الدول أو تلك بتعزيز النفوذ فيها، أو مد النفوذ إليها وتطوير العلاقات معها.
وتساءلت شريحة واسعة منهم، بعد نجاح الرئيس التركي أردوغان بالانتخابات الرئاسية في تركيا، وتعيينه لوزراء حكومته الجديدة؛ عن مدى نجاح رجل الاستخبارات "حقان فيدان" في منصبه الجديد وزيراً للسياسة الخارجية، وتعيين رجل السياسة "إبراهيم كالن" مديراً للاستخبارات التركية في المرحلة القادمة.
في الواقع نفذت العديد من أجهزة الأمن في بعض الدول مهاماً سياسية، حيث لعب الموساد دوراً كبيراً في سياسة الظل الخارجية لإسرائيل مع الدول، ويعتبر رئيسه "يوسى كوهين" عراب العلاقات مع قادة عرب ورأس حربة التطبيع.
كما تبادل العديد من العاملين في الشأن السياسي العام في دول عديدة أدواراً متعافية بين الأمن والسياسة، فقد عين الرئيس الأمريكي بايدن الدبلوماسي "ويليام بيرنز" مدير الاستخبارات الامريكية، ولعب "هنري كسنجر" دوراً كبيراً في السياسة الخارجية الأمريكية والأمن القومي الأمريكي أيضاً.
وعُين "جيمس جيفري" مبعوثاً أمريكاً لشؤون سورية، بعد أن كان مستشاراً للأمن القومي في إدارة جورج بوش.
وشغل رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني ريتشارد مور، سفيراً في تركيا بين عامي 2014 إلى 2017.
يعد تعيين كل من حقان فيدان وإبراهيم كالن الذين تعاقبا على تأدية مهام أمنية ودبلوماسية في مسيرة حياتهما المهنية، انعكاساً واضحاً للعلاقة التكاملية بين القطاعين "السياسي والأمني"، الذي تفرضه ظروف متعددة تعمل الدول على بلورتها وفق ما تحيط به، حيث تعيش تركيا في محيط بات يعم بالاضطرابات بسبب ما نجم عن تداعيات أدى إليها الربيع العربي، وضرورة تقديم مقاربات أمنية لبعض الحالات، وخاصة ما تشهده الحدود الجنوبية لها مع سورية. كما أن "فيدان" قاد باكورة المفاوضات مع نظام الأسد، التي تطورت إلى مفاوضات على المستوى العسكري والسياسي، دون أن تحقق أي نقلة على صعيد المضمون.
وبقيت في إطارها الأمني، بسبب معرفته وإدراكه مدى انهيار المؤسسات العسكرية لدى النظام، وانفلات الأوراق الأمنية التي يظن نظام الأسد أنه يستطيع التلويح بها في وجه تركيا كما السابق "حزب العمال الكردستاني"، لإن تلك الأوراق وصلت في سورية إلى مرحلة ترى نفسها أنها ند لنظام الأسد، وليست جزءاً من نظامه.
وعرف عنه تشدده في ضرورة إنهاد المهددات الأمنية لبلاده في تلك المفاوضات، وأن يكون لنظام الأسد دوراً جدياً فيها، وليس تفاوضاً من أجل التفاوض، إضافة إلى استهجانه للمقاربات التي يقدمها النظام، وإنكاره لحجم القتل والتهجير الذي تسبب به النظام.
أخذ الدمج بين ميداني السياسة والأمن في تركيا حيزاً واسعاً لدى المتابعين، على الرغم لم تكن تركيا هي السباقة في مثل هذه التعينات، وربما يعود حيز الاهتمام الذي ناله هذا الأمر في تركيا لعوامل يتعلق برؤية تركيا لدورها في المحيط الإقليمي والدولي، وضلوع الرجلين في هندسة ملفات خارجية مشتركة سابقاً، كالعمليات العسكرية التركية في سورية، ومسألة التفاوض مع اليونان ومصر وليبيا.
من المحتمل أن ينعكس هذا التعيين والدمج بين السياسة والأمن تشدداً ضد نظام الأسد، عُكس في وقت مبكر من بدء العمل في الولاية الرئاسية الجديدة، على لسان إبراهيم كالن الذي استبعد لقاء الرئيس التركي "أردوغان" برأس النظام، وأن محاربة الإرهاب أحد أهم القضايا التي تقع في بؤرة الاهتمام التركي في المرحلة المقبلة، لأن كل الإرهاب التي تعانيه تركيا آت من حدودها الجنوبية مع سورية.
وبالعودة للعلاقة بين الأمن والسياسة ومقاربات عملها لدى نظام الأسد، فإن أجهزة أمن النظام السوري تختلف جذرياً مع تلك الأجهزة الأمنية الأخرى، من حيث الهيكل العام والمهام، ولا يكاد يكون لها أي دور في رسم وتخطيط السياسات الخارجية أو الداخلية المتوازنة للدولة، ففي الخارج يقتصر عملها على ملاحقة المعارضين والايقاع بهم، أو احتجاز مواطني بعض الدول لأسباب ما، واستخدامهم في عمليات الابتزاز مع حكوماتهم. بينما تجهد نفسها في الداخل على مراقبة المواطنين، وتقييد حرياتهم، واعتقالهم وتعذيبهم بشكل ممنهج.