ذراع التطبيع الأعمى وما وراء الأكَمَة
خلال مؤتمر صحافي في لندن عام 2004 وَصَف وزير خارجية نظام الأسد، حينها فاروق الشرع، القرارَ الدولي 1559 بالسخيف. ذلك الوصف أملاه الوهم، بأن أمريكا لن تكون جادّة تجاه نظامه المطمَئن إلى الخدمات الجليلة التي قدمها تاريخياً. ذلك الاطمئنان تبَخّرَ برسالة أمريكية من بضع كلمات، أخرجت "حماة ديار النظام" من لبنان، قبل موعد أمر الخروج بوقت.
عقدان زمنيان يفصلاننا عن ذلك التاريخ، عندما أخذت أمريكا من ذلك القرار بطاقة حمراء رفعتها في وجه نظام الأسد للطرد من لبنان، علماً أنها لم تكن بحاجة لبطاقة كهذه. المفارقة أنه مع مُضيّ سنوات على صدور القرار 2118، والذي يحتوي في طيّاته بطاقات حمراء وسوداء، إلا أن تلك البطاقة لم تُرفع رغم أن القرار نصّ في البند 21 على التالي: "يُقرر في حالة عدم الامتثال لهذا القرار؛ بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد للأسلحة الكيماوية في الجمهورية العربية السورية أن تُفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة".
والآن، وفجأةً نشهد حضوراً لافتاً للقرار إياه ومناقشات حامية بشأنه في مجلس الأمن، وكأن بطاقة حمراء تلوح في الأُفُق. ولا نعتقد أن ذلك يحدث لسواد عيون الشعب السوري أو لاستمرار مأساته، ولا لوقف موجة التطبيع الخلّبية مع نظام الأسد الذي ثبت ارتكابه لجريمة الكيماوي، وبقي في حوزته بعض ذلك السلاح، وسُرب بعضه لميليشيات صديقة مجاورة، وتكرر استخدامه لتلك الأسلحة، بل لأن وراء الأكمة ما وراءها. فما معنى أن يكون أكثر من نصف النقاش بشأن روسيا ودورها ومرافعاتها المُزرِية بخصوص ملف "النظام" الكيماوي؟! {فالكلام هنا للكِنة، لتسمع الجارة} كما في المثل العربي الدارج.
تختلف ظروف استخدام البطاقة الحمراء للقرار 1559 عن ظروف القرار 2118؛ فالقوى المتواجدة على الأرض السورية، وتشابك مصالحها إلغائياً، ونوعية الصراع القائم في سورية تختلف. ولا تعطي قوانين قيصر والكبتاغون الشرعية لأي تصرُّف تحت الفصل السابع.
قد يَشِي هذا الاستحضار القويّ للقرار 2118 بتغيُّر حقيقي لإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية ليس تجاه القضية السورية (وكأن أمريكا كانت تسوق من الخلف في هذه القضية، والآن قررت تَقَدُّم الموكب) بل تجاه الصراع المتمثل بالحرب الروسية على أوكرانيا. هذه الحرب ممنوع أن تنتهي دون حسم؛ ولا بُدّ أن يكون فيها منتصر ومهزوم؛ ومعروف لمن تريد أمريكا الهزيمة.
تسعى أمريكا بشتى الوسائل إلى إزالة النفوذ الروسي عن المسرح السياسي وغير السياسي الدولي. وربما اختارت المنطقة العزيزة على بوتين، الشرق الأوسط، لنسف تلك التفاهمات "الأمريكية-الروسية" (وخاصة في سورية) وركلها في مهبّ الريح. تعرف أمريكا تماماً أن "الجَنى" العسكري الروسي على الساحة السورية، إن لم يُتَوَّج بجَنى سياسي، فلا قيمة له، فهو يُسجَّل نقاطاً سوداء واشتراكاً في الجرائم المُسَجَّلَة على نظام الإجرام الأسدي. وهي تعرف كيف تجعل "دينمو" التطبيع الروسي مع ذلك "النظام" يدور عبثاً.
تعرف أمريكا تلك السقطة السياسية التي وقع فيها الأسد عندما أعلن تحالُفه مع حاميه الروسي في الحرب على أوكرانيا. ومن هنا هو مشمولٌ بقطع تلك الأذرع الروسية. والذراع الآخر المطلوب بتره هو الذي يزوّد بوتين بطائرات "الدرون" وأسلحة أخرى في حربه على أوكرانيا. ويصادف أن الثلاثي "الروسي- الإيراني- الأسدي" في حالة تحالُف. ويزيد على ذلك ملفّ إيران النووي المُقلِق لإسرائيل الحليف الأساسي لأمريكا.
وبحكم التمدد الإيراني في سورية؛ وهو الأكثر عمقاً من الروسي الذي أصبح هناك في عين الهدف؛ والتناغم "الروسي-الإيراني" وحتى التركي في المطالبة بإخراج أمريكا من الشمال السوري؛ لا بُدّ أن رسائل خطيرة تأخذ طريقها إلى صانع القرار الأمريكي. وهكذا يضحى أي عَطَب في أي ضلع في المثلث أو المربع (إذا أُضيفت الصين إليه) خلخلة في البنيان ككل.
حتى ولو كانت أمريكا قد أعطت "ضوءاً برتقالياً" للتقارب "الإيراني – السعودي"، إلا أن ذلك محسوب بردّات الفعل المحتملة من قِبل إيران على ما هو قادم، إذا قررت إسرائيل أن تقلع شوكها بأيديها تجاه ملفّ إيران النووي وتزايُد اقترابها الجغرافي من إسرائيل. وعلى الصعيد الإقليمي تدرك أمريكا ما تريده إيران من القاعدة الأسدية، وتدرك أمريكا وُعورة الطريق التطبيعية مع منظومة إجرامية تحمل على كاهلها كل هذه الأحمال.
ضِمن هذا الازدحام يأتي استيقاظ بعض الدول العربية، التي تشعر بإهمال أمريكا لها، وتدخل دون حسابات بعيدة في الاتجاه الخطأ، وتمد اليد لمن يحمل سجلاً إجرامياً لا تزيحه قوة في العالم. وما مشروع قانون مكافحة التطبيع مع هذا "النظام" إلا تذكيراً بأن حارس البوابة لا يزال حاضراً. يأتي ذراع "الإنقاذ التطبيعي" هذا تزامُناً مع إستراتيجية تقطيع الأذرع، فما بالك إذا ما كان هذا الذراع أعمى ويدور في الفراغ سلفاً؟!
أخيراً، إذا كان التركيز الغربي، والأمريكي حصراً، على محاسبة نظام الأسد وعدم إفلاته من العقاب، فالغاية هي تكريس المبدأ ذاته ليشمل منظومة بوتين وارتكاباتها في سورية سابقاً، وفي أوكرانيا حاضراً. وما مذكرة الجنايات الدولية لاعتقال بوتين إلا أحد تجليات هذا التوجه. من هنا تأتي إعادة استحضار القرار 2118، وخرق نظام الأسد له؛ فهو الغطاء الشرعي الحقيقي لبتر كل الأذرع؛ ويبقى على أي حال التطبيق الشامل للقرار 2254 الممرّ والمَخْرج الإجباري؛ وإلا….. .