بحسب معظمِ علماء المسلمين، لا يصبح الجهادُ فرضَ عينٍ إلا في حالة النّفير العامّ، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض”، وبحديث الرسول عليه السلام: “وإذا اُسْتنفرتم فانفروا”.
كلام الله تعالى المُسْتشهَد به أعلاه هو جزء من الآية (38) من سورة التوبة، وإليكم الآية (39) من السورة نفسها: “إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”. فهل أوضح مِن كُفْرِ مَن لا ينفرون حين يجب أن ينفروا، وبالتالي خروجهم من الملّة، فالعذاب الأليم لن يكون، حتماً، للمؤمنين الموعودين بالجنّة، فالجنّة ليست للعذاب بل للثواب. كما أن الله تعالى لا يمكن أن يستبدل قوماً إلا إنْ كان قد تبرّأ منهم وغسل الواقع أيديه من إمكانية صلاحهم، أليس كذلك؟ هل حبّرتُ حرفاً واحداً هنا خارج المنطق، وفي المقدمة من هذا المنطق، منطق الدين الحنيف؟
وعليه، وإذا اتفقنا أن تدنيس حُرمة المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في كتاب الله، أولى القبلتيْن وثالث المساجد التي تُشَدُّ إليها الرِحال، هو من أوجب وأعظم وأوّل أسباب النّفير العام، فإن كل مَن لا ينفر من فوره انتصاراً له، وذوْداً عنه، يصبح، تلقائياً، ممن يوجّه تعالى كلامه إليهم، ويتوّعدهم بالعذاب، وقبل ذلك بالمحْوِ من الوجود، كونه يتحوّل إلى وجود لا معنى له، لا ينتصر لدين الله، ولا لمقدساته، ولا لحرماته. وعند الاستبدال بقومٍ آخرين، فبالضرورة أن الآفلين لم يعودوا: “يا أيها الذين آمنوا”، كانوا “يا أيها الذين آمنوا”، ولكن، وبمجرّد عدم نفيرهم، ولا غيرتهم على أرضٍ إسلامية، وعدم غيرتهم على أهلٍ مسلمين، وعدم غيرتهم على مساجد المسلمين، أصبحوا كافرين يستحقّون العذاب الأليم.
حرصتُ في مختلف ما تقدّم أن أخاطبهم بِلغتهم أولئك الجهّال الذين يظنّون (وإنّ بعض الظن إثم) أنهم يملكون مفاتيح الجنّة، ومَن يدخلها ومَن لا يدخلها، ومَن هو المؤمن ومن هو الكافر، وأن أستعينَ بِحججهم عليهم، فالقرآن حجّتنا جميعنا، ومرجعيّتنا الأولى، مع إجماع المسلمين أنه لم يتعرض لأيِّ تحريفٍ أو تغيير “إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لَحافظون”، كي أصل إلى الحقائق والنتائج الآتية: لا يحقّ لأي متقاعس عن النّفير العامّ أن يدّعي أنه من المؤمنين، بل هو ممن يستحقون العذاب الأليم (وأنا منهم)، ولكنّي، ولِيقيني أنني في قائمة الذين توعدهم الله، فكل ما أرجوه عفوه، وهو الذي يعلم عجزي وضعف قوتي وهواني على الناس، فأقلّها أن أطأطئ رأسي، وأواري سَوْأَة عدم انتصاري لِحرمات ديني وأرض هُوِّيتي، ولا أشرع بتوزيع قنابل التكفير ودروع الإيمان. أقلّها أن أصمت، فأيّ وقاحةٍ سأكون أنا، إنْ عفوتُ عن نفسي وتجرّأتُ على غيري؟ وإنْ تغافلتُ عن بُغضِ تقاعُسي، وأدنتُ مِلَلَ الآخرين ونِحَلَهم وموجبات عقودِهم الاجتماعية؟
وأمّا ثانياً، وبما أن الله توعَّد المتثاقلين الجبناء عديمي المروءة والشهامة والسوادي، باستبدالهم بأقوامٍ وأناسٍ غيرهم، فمن منّا يستطيع أن يدّعي معرفته صفات الذين يستحقون أن يكونوا أهلاً لندائه “يا أيها الذين آمنوا” ومواصفاتهم؟ ألا يمكن أن تكون مُراسلةٌ إعلاميةٌ نذرت حياتها للحق (والحق من أسماء الله الحسنى) وللحقيقة، وظلّت طيلة عمرها الحياتيّ والمهنيّ ملتصقةً بالقدس ومقدساتها، منافحة عن بيت المقدس مدينة الأرض والسماء، ألا يمكن أن تكون ممن اختارهم الله بديلاً لنا نحن المتثاقلين؟ ألا يمكن أن يناديها، جلّ في عُلاه، وهي الآن في داره الحق: أيتها المؤمنة؟ المؤمنة بقضية من قضايا الحق؛ الظالم فيها معروف والمظلوم واضح؟ المؤمنة بحق الشعوب بالعدالة والحرية والكرامة وحرية العبادة في المسجد الأقصى، حتى لا أقول كنيسة القيامة، وأظلّ في مستوى مَن يكفّرون ويرفضون ويفرّقون ولا يَرْعَوُون؟
وهل من رباط -يا أبطال الفتنة النّتنة- أعظم من رباطٍ في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؟! على أن المرابطين الحقيقيين لا يضيّعون وقتهم، ولا يستهلكون جهدهم، بحروب الفتنة، وتوسيع الشُّقّة، وتخريب عقول الناشئة، وزرع أسباب الحقد والقطيعة والوهن بين أبناء المجتمع الواحد.
لم تكونوا تستحقّون منّي كل هذا الوقت، فوقتي الثّمين تستحقه شهيدة من طراز شيرين أبو عاقلة، أترحّم عليها، أطالب بدمها، أستنفر كل أسلحتي الصحافية والكتابية لمواصلة الضغط على العالم الذي لا يحبّنا، ويفرحُ كلما فرَّخَ واقعُنا المهزومُ أمثالَكم، أضغط عليه كي يعاقب قاتليها، وينحاز للعدالة في قضيّتها.
لم تكونوا تستحقون لا وقتي ولا حنقي ولا وجع روحي بسبب وجودكم بيننا، ولكنّي شعرت أنّ من واجبي أن أضع النقاط على الحروف، وأدينكم بالقرآن الكريم؛ كتاب الله الذي شوّهتم روحه، وسرقتم تسامحه، وحرّفتم فيه الكَلِمَ عن مواضعه. ألا بئس ما تفعلون وتفترون وتدمّرون وتحاولون تحطيم حلمنا وأملنا بالله، ثم بالأخيار الصالحين والصالحات أمثال الشهيدة شيرين والشهداء أجمعين، إن فلسطين باتت أقرب من أي وقت، وتحريرها اقترب، والعودة باتت قاب قوسين، شرط أن يكون الله قد أوفى وعده لَكم، وأنجز توعّده بِكم، واستبدلكم بمن هم أخيَر منكم من أهلنا وأحبّتنا وجيرتنا وعزْوَتِنا وهبّتنا وفزْعَتِنا من كل لونٍ وطائفةٍ ودين، فيسبق التحرير تحرّراً منكم، وانعتاقاً من شروركم، كي لا يعود يَفِرُّ مِنّا اليقين.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية