المصدر: نيويورك تايمز
بقلم: نايغل غولد ديفيز
ترجمة: عبد الحميد فحام
“ما هي خطوط بوتين الحمراء؟”
هذا السؤال، الذي يُطرح بإلحاح متزايد مع خسارة روسيا لحربها في أوكرانيا ولكنها في الوقت نفسه لا تتراجع عن اعتداءاتها، يهدف إلى توفير رؤية واضحة تحليلية وتوجيه للسياسة، ولكن في الواقع من الخطأ طرح هذا السؤال، لأن “الخط الأحمر” استعارة سيئة، فالخطوط الحمراء هي تضليل وتمويه وهناك طرق أفضل للتفكير في الإستراتيجية.
تشير “الخطوط الحمراء” إلى وجود حدود محددة للإجراءات التي تكون الدولة – في هذه الحالة، روسيا – مستعدة لقبولها من الآخرين. إذا تجاوز الغرب هذه الحدود، فسترد روسيا بطرق جديدة وأكثر خطورة. والخط الأحمر هو الحد الذي يمنع التصعيد ويجب أن تسعى الدبلوماسية الغربية إلى فهم واحترام الخطوط الحمراء لروسيا من خلال تجنب الإجراءات التي قد تتجاوزها. وبالتالي، فإن الخطوط الحمراء لروسيا تفرض قيوداً على الإجراءات الغربية.
هناك ثلاث عيوب في هذا المنطق. أولاً، يفترض أن الخطوط الحمراء هي سمات ثابتة للسياسة الخارجية للدولة لكن ليس هذا هو الحال أبداً. إن ما تقوله الدول، بل وتعتقد أنها لن تقبله، يمكن أن يتغير جذرياً وسريعاً. ففي عام 2012، قال الرئيس باراك أوباما: إن استخدام سورية للأسلحة الكيماوية، هو “خط أحمر” من شأنه أن يؤدي إلى “عواقب وخيمة” ولكن عندما قتل النظام السوري مئات المدنيين بغاز الأعصاب السارين في العام التالي، كما أفادت العديد من مجموعات المراقبة، كان رد الولايات المتحدة صامتاً. كذلك كانت عودة طالبان إلى كابول في آب /أغسطس من عام 2021 – وهي النتيجة التي أمضى الغرب عقدين من الزمن وأنفق تريليونات الدولارات لمنعها – من أبرز الخطوط الحمراء.
هذه ليست استثناءات وإنما في الحقيقة، الخطوط الحمراءدائماً ما تكون متحركة ومتغيرة وعرضية وليست محفورة بعمق في الجيوسياسية (الجغرافيا السياسية المتغيرة). وبينما يمكن أن تكون المصالح الوطنية قضايا أبدية، إلا أن الطريقة التي تعبر بها عن نفسها كالتزامات محددة ستعكس ظروفاً مؤقتة ومتغيرة – من بينها، القوة النسبية، وتصورات التهديد، والحسابات المحلية والاتجاهات العالمية الأوسع. لذلك يجب على الدبلوماسية ألا تسعى إلى تجنب الخطوط الحمراء للخصم، ولكن ينبغي تغييرها.
الإستراتيجية الإبداعية والحازمة لا تُقيّد نفسها بشكل استباقي بالخوف مما قد يراه الجانب الآخر غير مقبول، ولكنها بدلاً من ذلك، تقوم بتنسيق جميع عناصر الموقف لحثّ الخصم على قبول أهدافها.
العيب الثاني في عقيدة الخط الأحمر، هو أنه عند التركيز على استجابة الدولة التي تقوم بالتصعيد، فإن الطرف الآخر يأخذ في الاعتبار فقط المخاطر والمعضلات التي قد يفرضه ذلك التصعيد على الخصم وليس المخاطر التي تواجهها الدولة التي تقوم بالتصعيد نفسها. فالتصعيد يعني التصرف بطرق أكثر خطورة على الجميع وقد قيل بأنه مخاطرة كبيرة ولا يمكن التفكير فيه. يجب أن يأخذ مثل هذا التفكير في الاعتبار التكاليف المحتملة وكذلك الفوائد المترتبة من التصعيد. فالتصعيد هو خيار، وليس خطة- يمكن للخصم أن يقوم بتعطيلها من خلال نقل التكاليف المترتبة على اتّباعه ليعاني منه الخصم.
العيب الثالث، أن الانشغال بالخطوط الحمراء، هو أمر خادع حيث ستسعى الدولة إلى التلاعب برغبة الخصم في كبح جماح نفسه من خلال توسيع نطاق المصالح التي تدّعي أنها أساسية والأفعال التي تعتبرها غير مقبولة. وبالتالي فإن الخوف من التصعيد يشجع على تصعيد الخداع.
يمكن أن يساعد الكشف عن هذه العيوب في صياغة سياسة أفضل، فالمخاوف بشأن الخطوط الحمراء لروسيا مدفوعة، قبل كل شيء، بالخوف من أن تلجأ روسيا إلى التصعيد النووي. يجب على الغرب تجنب ذلك من خلال ردع روسيا بدلاً من تقييد نفسه – أو الضغط على أوكرانيا للقيام بذلك – خوفاً من استفزاز روسيا. يمكن لأوكرانيا أن تفعل ذلك من خلال إيصال اليقين بشأن العواقب الوخيمة في حالة استخدام روسيا للأسلحة النووية. لقد حاولت روسيا وفشلت في فرض خطوط حمراء مع التهديدات النووية عدة مرات منذ بدء الحرب – كان آخرها في تشرين الثاني/نوفمبر، عندما حررت القوات الأوكرانية خيرسون بعد ستة أسابيع فقط من إعلان فلاديمير بوتين أنها جزء من روسيا. وقد رفضت أوكرانيا والغرب هذه الخدع بشكل فعلي ويجب أن يستمروا في فعل ذلك.
مفهوم الخطوط الحمراء له استخداماته إذ أن أصولها تكمن في دراسة التفاوض، حيث تحدد الشروط الدنيا للدولة لاتفاق مقبول. إذا لم يتم الوفاء بهذه الأمور، يمكن للدولة أن تنسحب. هنا، تم إصلاح الخطوط الحمراء، ويمكن للدول الأخرى أن تجد أنه من المفيد جداً اكتشاف ما هي عليه – كما فهمت أمريكا، على سبيل المثال، عندما قامت بفك تشفير الموقف التفاوضي الياباني قبل المحادثات التي أدت إلى معاهدة واشنطن البحرية في عام 1922. لكن تطبيق الحالة الخاصة للتفاوض – مع معايير قليلة ونطاق ضيق من النتائج – على تنافس جيوسياسي مُعقّد وسَلِس وأوسع بكثير هو خطأ تصنيفي. ففي حين أن خطر التصعيد النووي الروسي قد يرتفع ويجب دراسته بعناية، إلا أنه لا توجد فئة خاصة ومنفصلة من الإجراءات التي قد يتخذها الغرب أو أوكرانيا والتي من شأنها أن تؤدي إلى حدوثه تلقائياً. ليس لروسيا خطوط حمراء: لديها فقط، في كل لحظة، مجموعة من الخيارات والتصورات حول المخاطر والفوائد النسبية. يجب على الغرب أن يهدف باستمرار، من خلال دبلوماسيته، إلى تشكيل هذه التصورات بحيث تختار روسيا الخيارات التي يفضلها الغرب.
فعلت أمريكا هذا من قبل خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وهي المواجهة النووية الأكثر خطورة حتى الآن، فقد تغير موقف الاتحاد السوفيتي في غضون أيام، ووافق في النهاية على نتيجة تصب في مصلحة الغرب. ولو كان تفكير الخط الأحمر رائجاً، لربما قبلت أمريكا بحلّ وسط أدنى أضعف أمنها ومصداقيتها.
في حين أن روسيا تستثمر في إخضاع أوكرانيا أكثر مما كانت في نشر الصواريخ في كوبا، إلا أن المنطق هو نفسه. ففي عام 1962، أقنعت أمريكا الزعيم السوفيتي، نيكيتا خروتشوف، بأن إزالة الأسلحة النووية من كوبا كانت، على الرغم من كونها غير مستساغة، خياراً أفضل من نشرها.
وبالمثل، يجب على الغرب الآن إقناع السيد بوتين بأن سحب قواته من أوكرانيا أقل خطورة من القتال. فمن المرجح أن يفعل ذلك إذا فهم أن حرباً طويلة تهدد نظامه – الذي يبدو أن الحفاظ عليه هو الشيء الوحيد الذي يقدّره أكثر من المحاولة لجعل أوكرانيا دولة تابعة له- من خلال إضعاف التماسك الداخلي بشكل كبير أو عن طريق التصعيد الذي يخرج عن نطاق السيطرة.
يجب أن تركز أمريكا على ثلاثة أشياء. أولاً، يجب ألا تعلن بعد الآن أن هناك تدابير ستمتنع عن اتخاذها وأنظمة أسلحة لن توفرها لدعم أوكرانيا. إن الإشارة إلى ضبط النفس من جانب واحد يعني تقديم تنازل غير قسري. والأسوأ من ذلك، أنه يشجع روسيا على تحقيق مكاسب ومحاولة فرض المزيد من القيود على الإجراءات الأمريكية – مما يجعل الحرب أكثر خطورة وليس أقل.
ثانياً، يجب على أمريكا وشركائها أن توضح أن الوقت يسير ضد روسيا – وليس لصالحها، كما لا يزال بوتين يعتقد. يجب على الغرب أن يُظهر استعداده لتعبئة تفوقه الاقتصادي الهائل، وبسرعة، لتمكين أوكرانيا من هزيمة روسيا وفرض مزيد من العقوبات القاسية. ستؤدي التكاليف العسكرية والاقتصادية التي ستتكبدها روسيا إلى استنزاف مواردها المحدودة للغاية وستضع ضغوطًا أكبر على النظام.
ثالثاً، يجب على الغرب أن يوضح لمجموعة واسعة من الجماهير الروسية أنه من الآمن إنهاء الحرب بمغادرة أوكرانيا. ومن غير المرجح أن يؤدي الانسحاب المنظم إلى تغيير النظام، ناهيك عن أنه لن يؤدي إلى تفكك روسيا.
حيث لا تعتبر أي من النتيجتين هدفًا رسميًا للسياسة الغربية، والحديث عنها غير مفيد، بل يؤدي إلى نتائج عكسية. البعض في الغرب سيقاوم فكرة أي تطمينات من هذا القبيل، ولكن إذا خلصت النخب الروسية إلى أن مغادرة أوكرانيا أمر خطير بقدر البقاء فيها، فلن يكون لديهم حافز للضغط من أجل إنهاء الحرب إذ أن الطمأنينة لا تعني التنازل.
يمكن لعمليات التشكيل الدبلوماسية هذه، التي تتم متابعتها بحزم أن تدعم الحملة العسكرية لأوكرانيا، والتأكيد على أن الخيار الأقل سوءاً لروسيا يتوافق مع ما يريده الغرب الأكثر قوة. هذه الاستراتيجية هي عكس قبول الخطوط الحمراء. فمن الواضح أن الخطوط الحمراء هي صورة معكوسة لاستعارة سابقة استخدمت في بداية الحرب. فعندما بدت روسيا قوية، اقترح الكثيرون منح بوتين فرصة لإقناعه بالتوقف عن القتال.
والآن بعد أن أصبحت روسيا أضعف، فإنهم يطالبون الغرب بضبط النفس لإقناعه بعدم القتال بتهوّر.
كلا النهجين من شأنه أن يكافئ العدوان الروسي من خلال تغيير السياسة الغربية بما يتماشى مع تفضيلات روسيا. لم يكن السيد بوتين قد أُعطي أي فرصة في ذلك الوقت، ولا ينبغي السماح له بتحديد حدود السياسة الغربية الآن، فالاستراتيجية تحتاج إلى تفكير صارم، وليس استعارات بائدة.