لا شكّ أن الحرب الروسية الأوكرانية ومنذ لحظة اندلاعها قد تسببت في دمار وخراب ومعاناة ونزوح ولجوء وأزمات إنسانية متفاقمة كبيرة، يأتي هذا كله مترافقاً مع الانتكاسات الواسعة التي أثرت وبشكل كبير على الاقتصاد العالمي في كافة مجالاته، هذا الاقتصاد الذي بدأ يُسمع أنينه تحت وطأة تباطُؤ النمو والزيادة المطردة والسريعة في معدلات التضخم الذي يترافق مع الزيادات الحادة في أسعار وتكاليف الكثير من السلع الأولية الأساسية كالقمح والحبوب والأسمدة والزيوت والطاقة (الغاز والبترول ومشتقاته)، وانعكاسها بشكل واضح وكبير على كافة أسعار المواد الغذائية والأساسيات الأخرى، وخاصة أن أوكرانيا وروسيا مجتمعتين تسهمان بأكثر من 30٪ من إنتاج القمح في العالم.
في الواقع إذا وضعنا كافة التداعيات الإنسانية والاقتصادية المؤلمة جانباً، وخضنا وتناولنا تأثيرات هذه الحرب على المشاهد السياسية والعسكرية والعلاقات والاصطفافات الدولية، وانقسام المجتمع الدولي الواضح تجاه هذه الحرب فإننا سنجد أن الاصطفافات توزعت إلى معسكر شرقي يتمثل بروسيا والصين ومن يدور ويصفق في فلكيهما مثل ( سورية، إيران)، ومعسكر غربي تقوده واشنطن والناتو وجميع الدول الأوروبية تقريباً، ومعسكر رمادي يقف في الوسط ولأسباب متعددة يرونها كتركيا وإسرائيل وبعض الدول الأخرى، أو حيادي صامت بلا لون ويخشى المجاهرة بمواقفه الرسمية خوفاً من التداعيات وإغضاب أحد الطرفين (روسيا، واشنطن والغرب) وانعكاس تأثيرات مواقفه تلك مستقبلاً عليه، أي وكما يقول المثل الشعبي “يريد سلته من دون عنب”. وغالباً هؤلاء ينتمون وللأسف للعالم العربي والإسلامي.
توترات وخلافات روسية إسرائيلية تطفو على السطح:
عملياً ورغم العلاقات السياسية المتميزة في العقود الأخيرة بين موسكو وإسرائيل، ولكن بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فقد قامت حكومة إسرائيل وبدون أية تحفظات أو حسابات أخرى بإغضاب “الكرملين” والرئيس “بوتين” بالذات عندما صوتت في مجلس الأمن لصالح مشروع قرار للمجتمع الدولي والأمم المتحدة يطالب القوات الروسية بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي الأوكرانية التي دخلتها وسيطرت عليها، بل لم تكتفِ -أي إسرائيل- بذلك فقط فقد قامت ثانيةً بالتصويت لصالح مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بتعليق عضوية ومشاركة “روسيا” في مجلس حقوق الإنسان. ناهيك عن الانتقادات التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي “مائير لابيد” للعملية العسكرية الروسية وللرئيس “بوتين” على الجرائم الروسية المرتكبة في أوكرانيا، وقوله لو خيرت “تل أبيب” في الاصطفاف إلى جانب موسكو أو واشنطن فإنها بالتأكيد ستختار الوقوف وبدون أية تحفظات إلى جانب الولايات المتحدة، ومما زاد التوترات أيضاً قيام إسرائيل بتدريب جنود أوكران وتزويد الجيش الأوكراني بعتاد غير فتاك كالمشافي الميدانية والمستلزمات الطبية ولوجستيات حربية كالخوذ والسترات والدروع المقاومة للرصاص.
من المعروف أنه وفي أية علاقات دولية ثنائية فهناك أحياناً فترات من الفتور والتقلبات التي قد تمر فيها هذه العلاقات، وهكذا هو الحال في العلاقات السياسية بين الدول فلا يوجد صديق دائم ولا عدو دائم، وإنما العلاقات الثنائية الدائمة تحكمها المصالح الدائمة، وإسرائيل وعَبْر التاريخ وكما هو معروف عنها قد انتهجت دائماً المناورة الخبيثة والتوازن بين مصالح القوى العظمى، ولم تفكر أبداً في الاعتماد على طرف واحد دون الآخر (وضع بيضها كله في سلة واحدة)، لذلك ورغم كل شيء فـ “تل أبيب” مستمرة في اللعب على جميع خيوط وجوانب الخلافات القائمة ومنذ قرون بين روسيا وواشنطن والغرب.
عمليا وفي الفترات الأخيرة وبعد موقف “إسرائيل” من الحرب الروسية ورغم حرص الحكومة الإسرائيلية الشديد على منع ظهور أو إظهار وتطور أي بوادر للخلافات مع روسيا، ولكن لم يعد بإمكان هذه الحكومة أن تمنع خلافات روسيا معها من أن تتفاقم وتطفو على السطح، وخاصة بعد تلقي إحدى المحاكم في “موسكو” قبل أيام دعوى قضائية إدارية صادرة عن وزارة العدل الروسية، بشأن قرار روسي محتمل يقضي بحل الوكالة اليهودية، ووقف أنشطتها على الأراضي الروسية. ومن الجدير ذكره أن الوكالة اليهودية لها مكاتب في العديد من دول العالم، و هي الذراع غير الرسمي للحكومة الإسرائيلية المكلفة بالإشراف على تنظيم الهجرات إلى إسرائيل وتشجيعها .
التخوفات الإسرائيلية من التباعد مع موسكو:
رئيس الوزراء “مائير لابيد” وعَبْر بيان له قبل أيام حذر من أن إغلاق مكاتب الوكالة اليهودية سيكون حادثاً خطيراً من شأنه أن يزيد التأثيرات السلبية على العلاقات الإسرائيلية الروسية، وأنه سيتخذ إجراءات للرد على الإجراء الروسي أحدها تجلى في استدعاء السفير الإسرائيلي في “موسكو” للتشاور.
وفي الواقع ورغم التصريحات الغاضبة الإسرائيلية، لكن الواقع يقول إن رئيس الوزراء “لابيد” ومعه قيادات إسرائيلية وازنة لا يرغبون -وبشكل مطلق- بتدهور علاقات بلادهم الإستراتيجية مع “موسكو” وأقلها في مثل هذه الأوقات، وبالتأكيد سيتم البحث خلال الأيام المقبلة والعمل على إيجاد تفاهمات وحلول وسط تُرضي الطرفين، بل وستستمر إسرائيل وبمكر الماكرين في سياسة استيعاب “روسيا” كما استوعبت سابقاً تصريحات وزير الخارجية “سيرغي لافروف” عندما وصف “أدولف هتلر” بأنه “ذو دم يهودي” وأن الرئيس “زيلينسكي” هو زعيم يهودي نازي هتلري . يأتي هذا كله نتيجة عدة أسباب تخشى وتتخوف فيها إسرائيل من ازدياد الفجوة والقطيعة الدبلوماسية مع موسكو وهذه لأسباب تتلخص بـ:
1- تخوُّف إسرائيل وخشيتها من خسارة تفاهماتها مع”موسكو”، وبالتالي عرقلة أو فقدانها لحرية العمل في الأجواء السورية، وانتهاء التنسيق مع الجانب الروسي (منع التصادم والحوادث الجوية) في العمليات والغارات التي تقوم بها على الأهداف الإيرانية المنتشرة داخل الأراضي السورية، وخاصة أنه وفي” أيار” الماضي وبسابقة تعدها “إسرائيل” بالخطيرة تم التصدي للطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية وتهديدها من خلال إطلاق صاروخ من منظومات “S300” التي يديرها ويشرف عليها حتى هذا الوقت الضباط الروس.
2- قلق “إسرائيل” الكبير أيضاً من إمكانية غض طرف “روسيا” أكثر أو سماحها لـ “حزب الله” اللبناني وللحرس الثوري والميليشيات والأذرع الإيرانية بالتمدد والتمركز بكل ثقلها وصواريخها ومسيراتها على الأراضي السورية، وخاصة قرب حدود “الجولان” وتهديدها أكثر للأمن القومي الإسرائيلي.
3- الكيان الإسرائيلي يعي ويدرك تماماً أنه وطيلة سنوات تقاربه وتنسيقه مع “موسكو” في سورية يصرّ على إحراجها وإرباك تحالفاتها في سورية (مع إيران)، وذلك عَبْر الغارات الجوية والهجمات الصاروخية التي تشنها ضد الأهداف والتموضعات الإيرانية، مما يعني تهديد إسرائيل للفرص الروسية في التقارب والتنسيق مع “طهران” لمواجهة تطورات الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية المفروضة على “موسكو”. وخشية إسرائيل من التقارب الروسي الإيراني الذي سيأتي بالتأكيد على حساب العلاقة معها.
4- خشية إسرائيل من قيام “موسكو” بتزويد النظام السوري وملالي “قم” بأسلحة نوعية دقيقة وتكنولوجيا عسكرية جديدة، قد تهدد أمن إسرائيل أكثر وتهدد طيرانها الذي استباح الأجواء والأراضي السورية بدون رقيب أو حسيب.
ختاماً.. إن المؤشرات السياسية والميدانية ورغم الخلافات في وجهات النظر في بعض الملفات الدولية إلا أن معظمها يشير إلى أن موسكو وتل أبيب لهما المصلحة المشتركة في تجاوُزها وتقليم أظافر إيران في سورية وتحجيم نفوذها ومنعها من تجاوُز الخطوط الحمراء المرسومة لها من ضابط الإيقاع الروسي بالترافق مع الضغط الإسرائيلي، وبناءً عليه فإن أي خلافات ومهما كان نوعها بين إسرائيل وروسيا فهي ومن أجل تحقيق هذا الهدف ليست مستحيلةً أو عَصِيَّةً على الحلّ.