بات هذا التعبير ”استقلالية القرار“ أكثرَ إلحاحاً من ذي قبل، بعد أن غَدَت المطالبة به جزءاً من العمل اليومي للسوريين الذين يرون أنهم يستحقّون مستقبلاً كريماً لا عودةً إلى حظيرة الأسد.
البعض فَهِم حين اندلعت الثورة في العام 2011 أن استقلالية القرار الوطني السوري أن يُغنِّي كلٌّ على لَيْلَاه، وأن يرفع أولئك الذين يطالبون بكيانات انفصالية، عِرْقية أو طائفية، أصواتهم إلى الحد الأقصى، محطِّمين كل ما يؤمن به بقية الشعب السوري وهم الغالبية السكانية التي لا ترى سورية إلا وطناً للجميع بما تعنيه الكلمة، لا غُرَفاً وأَزِقَّة وغيتوات مقسّمة عِرْقياً ودينياً وطائفياً.
آخرون رأوا أن استقلالية القرار الوطني السوري تقتضي أن لا يكترث السوريون لمصالح دول الجوار والدول المعنيَّة بالمتغيّرات في سورية، وهؤلاء ذهبوا في طريق كلما بدت مسدودة أكثر شعروا بأن أفكارهم تستحق التضحية من أجلها، والتضحية هنا هي بالجميع لا بتياراتهم فقط، بسورية وبالسوريين معاً.
نمط مختلف فكّر في أن الحلّ الضامن لاستقلالية القرار الوطني السوري هو ربطه بقرار أقوى منه؛ أمريكي، روسي، تركي، خليجي، إسرائيلي، وما شئتَ من تنويعات لن تخرج عن مفهوم التبعية قَيْد أنملة ولو سُمّيت تحالُفاً أو تنسيقاً مشتركاً، إلا أنها في واقع الحال لم تكن سوى سمع وطاعة، لا تنضوي على ندية واحترام للذات يُشعر الحليفَ بقوة الموقف السوري، ويدفعه لدعمه بدلاً من أن يملي عليه ما يجب أن يفعله.
استقلالية القرار الوطني السوري تكمن في استقلالية الرؤية الوطنية السورية، وهي غائبة لدى كثيرين، فالإسلامي والقومي (العربي والكردي وغيرهما) ما يزال ينظر إلى سورية كقطعة من بقية أمّة مشرذمة أصلاً، وكولاية من دولة إسلامية فعل الدهر بها فِعْله، ولا يمكنه أن يتصور نفسه متخلياً عن نظرته تلك من أجل أي حلول ”قطرية“ هو لا يعترف أصلاً بالحدود التي شرعنتها والتي وضعها الغرب الاستعماري.
حتى أولئك الذين فطنوا إلى ضرورة وضع سيناريو لدولة المستقبل السورية، أخذوا يهندسونها وَفْقاً لمعايير لا علاقة لها بالمجتمع السوري، ولا تنظر إلى طبيعته ولا تراعي عاداته وتقاليده وهُوِيَّته، وطريقهم هذه لن توصلهم إلا إلى استحالة تطبيق رؤية سورية المستقبل سوى بالفرض والقوة، وهذا ما لم يحدث ولن يحدث على الأرجح، سوى باستمرار الاستبداد الذي يرفض بدوره تغيير فكره وأدواته وأساليب حكمه.
أما الداعمون لمشروع التغيير في سورية فلن يقوموا بإنزال عسكري لتطبيق الرُّؤَى الهابطة من السماء، والتي لم تنظر بعين الاعتبار إلى ما يريده السوريون على أرض الواقع.
النموذج السوري بحدّ ذاته نموذج معقَّد جداً، نموذج الهُوِيَّة العابرة للجغرافيَا، ونموذج الدولة المسرح القابل لهضم كل الهُوِيَّات وإنتاج نمط ثقافي ما يزال متفوقاً وسط الركام، وكونه معقَّداً هذا لا يعني أنه يمكن التعامل معه بعُدَّة بسيطة ساذجة لا تحكم الإمساك بكافة المقتضيات، وعلى رأسها طبيعة الشعب السوري والمجتمع السوري في غالبيته، وهو ما يحدث في كل بلدان العالم، فلا يجري تصميم الدولة والمستقبل وَفْقاً لفئة صغيرة عدداً بل إلى الطبيعة العامة للشعب، وعلى المؤسسات الديمقراطية أن تحفظ الكل ضِمن محددات الدستور والقوانين.
ثاني المهام التي لا يمكن الفرار منها، كمسؤوليات سياسية وفكرية، هي النظر بعمق إلى المكان الذي تتموضع فيه سورية، سواء في الإقليم أو العالم العربي أو العالم، والبناء على ذلك بعقل علمي لا حماسي، فمَنْ ذا الذي سوف يسمح لك بالعبث في دولة تشرف على كل هذه البلدان ذات الأوضاع المعقَّدة والصعبة والحسّاسة؟
وهذا يقتضي التخلص من عُقَد كثيرة شابت العملَ السياسيَّ السوريَّ ومنعت المجاملاتِ والنفاقَ الاجتماعي والسياسي من ظهور حقائق مهمة وثوابت يجب أن يحسب حسابها أثناء المفاوضات أو حتى من خارج العمل المعارض الرسمي.
يريد السياسيون السوريون أن يأتيهم الحل دون أن يصيبهم بلل الخوض في القضايا الإشكالية، وعلى رأسها الهُوِيَّة، والعلاقات بين المكوّنات السورية، والعلاقة مع إسرائيل التي يجب حسمها وفقاً للحقوق والتفاهُمات دون تفريط ودون هلع من الاتهام، وبالطبع دون تهافُت وقلة قيمة فعلها البعض ويسير باتجاهها آخرون علناً وسراً.
إن استمرار الوضع الراهن سواء في أروقة مؤسسات المعارضة السورية أو في شوارع المناطق المحررة في الشمال أو في المناطق التي يحتلها حزب العُمّال الكردستاني في المحافظات السورية الثلاث الرقة ودير الزور والحسكة أو تلك التي تحتلها إيران وروسيا ويتصدرها بشار الأسد كواجهة، لن يقود إلا إلى فوات الأوان، وحين يفوت الأوان سيكون أمام دول المنطقة والعالم حلّ وحيد، هو اعتماد نظام ما في دمشق، مع عِلَله وجرائمه، خاصة أن تلك الدول ذاتها وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع نظام لا يختلف عن نظام الأسد بشيء بل إنه منبع من ينابيع دعمه، وهو نظام بوتين في موسكو، ومثله نظام الصين ونظام كوريا وفي الطريق نظام المرشد في طهران.
أما أولئك الذين يظنون أن ”الأوان لا يفوت أبداً“، فتنتهي حياتهم على الأغلب شهداءَ أو مسمومين أو معزولين عن الحكم مُستبعَدين من اللعبة، كما كان حال قائل العبارة ذاتها. وهذا لن ينفع الشعبَ والدولةَ بشيءٍ بل سيخلد أصحابه وحَسْب، في خيار شديد الأنانية والتفريط بحقوق الناس.
Author
-
إعلامي وكاتب سوري يقيم في ألمانيا - مدير تحرير نداء بوست، صدر له العديد من الكتب والأفلام الوثائقية والبرامج الحوارية