أثناء تصفُّحي لكتب لوقا السميساطي، و"سميساط" مدينة سورية قديمة تقع في الجزء السوري من تركيا الحالية قريباً من "منبج" المدينة السورية الواقعة في شمالي سورية المعاصرة… والسوريون المعاصرون ينطقون اسم سميساط بـ " شميسات "، ولوقيانوس يدعى بالمنطوق المعاصر بلوقيانوس الشميساتي، وفي أثناء بحثي عن لوقيانوس عثرت على ما يشبه سِيرة حياته الأولى، ويبدو أن ذلك كان ضرورياً لنضعه في موقعه الديني، والثقافي، والتاريخي الصحيح…
والحق أن كتب التاريخ المعاصرة للوقيانوس لم تذكر الشيء الكثير عن طفولة لوقيانوس أو حتى عن شبابه المبكر والأهم أنها لم تذكر شيئاً عن سنة مولده، ولكن ما كتبه عن طفولته، وولادته، وعن أبيه البسيط وخاله النحّات، وأمه الطامحة إلى خلافة لوقيانوس لخاله يُقرِّبنا من صورته فقد وُلد لوقيانوس فيما بين عامَيْ 120 ميلادية، و124 على الأكثر، وتاريخ ميلاده الحقيقي سيظل تخميناً…. وقد عرفنا هذا أو خمّنّاه من حديثه في مؤلفه "هيرمونيموس" الذي طرحه للقُرّاء في عام 165م، وكان كما يقول في العقد الرابع من عمره، أي في عهد الإمبراطور الروماني هادريان، وربما كما افترضنا أي فيما بين عامَيْ 124 و 120.
كانت "سميساط" تقع قريباً من منابع نهر الفرات، وكانت في ذلك الوقت عاصمة لولاية كوماجين، أو ديار بكر في قاموسنا الجغرافي المعاصر، وكان السكان فيها يتكلمون السريانية، وكان أبواه متواضعَي الحال، فرأت الأم أن يتعلم النحت على يد أخيها وهو نحّات مشهور حينذاك، فأرسلته إليه وأخذ في التعلم حتى اطمأنَّ الخال إليه، فأعطاه يوماً قطعة مرمر ثمينة، فضربها بمطرقته ضربة قاسية دمرتها، وغضب الخال كثيراً، ورفع العصا ليضربه، ولكنه هرب من أمامه، وغاب بين البساتين خائفاً من عَتْب أمه، وقسوة أبيه، وعقاب خاله، ولكنه ما إن حل المساء وجاع حتى رجع إلى البيتِ المرعوبِ على الصبي الغائب على غير سابقة له، حيث لم يعاتبوه كثيراً، بل صمم الأب على تركه العمل لدى الخال… وطالب لوقيانوس أبويْهِ بمتابعة دروسه ليتعلم الخطابة والفلسفة السفسطائية، ورضي الأبوان بتحمل عبء تعليم الولد الذي أخفق في تعلُّم المهنة الرابحة جداً في ذلك العهد، ولعله كما همست الأم في أذن الأب لم يكسر قطعة المرمر، بل الرب هو من كسرها لينصرف الولد إلى تعلُّم ما هو جدير به.
السؤال الذي يفرض نفسه على المتابع لسيرة لوقيانوس هو: أين تابع لوقيانوس دروسه وتعلُّمه؟ ولكن جواباً شافياً لن نحصل عليه كما في قصص كل الناجحين الذين يُخفُون ماضيهم عمداً إما لأنه لا يضيف إلى عملهم شيئاً مهمّاً، وإما لأنه غير مشرف… وربما كان ما تم هو أن الأب قد غامر، فأرسل لوقيانوس إلى "إيونيا"، و"إيونيا" هذه هي التي حرف السريان والآسيويون منطوقها لتصبح "يون" وحين يحيلونها إلى صيغة الجمع ستصبح يونان، فقد كان سكان "إيونيا" غالباً من الإغريق أو اليونان، ثم أطلقوا الاسم على بلاد الإغريق عموماً متخلين عن الاسم الذي اختاره الإغريق لأنفسهم "الهيلاس" ، والتي تعني الهيلينيين نسبة إلى هيلين الشخصية الشهيرة في ملحمة "الإلياذة".
في "إيونيا" وجد لوقيانوس نفسه في جنة المعرفة، فمنذ زمن الحكام الأنطونيين عمّ السِّلْم والرخاء أرجاء الإمبراطورية الرومانية… وانتشر الوعي والرغبة في تعلُّم الفلسفة والتاريخ والبلاغة، وانتشرت المدارس واجتمع إليها أشهر أساتذة البلاغة أمثال "بوليمون" اللاذقي ، وسكولبيان "القلازومي"، وغيرهما من فحول الأساتذة وانتشرت الحماسة في نفوس الشبان المتعطشين للعلم والتعلم.
كانت شهرة هؤلاء المعلمين والمغامرين بفتح أبواب المعرفة أمام شبان المتعلمين قد وصلت إلى "سميساط"، فعرف لوقيانوس طريقه إليهم لاستكمال معارفه في البلاغة، واللغة اليونانية.
في محاولتي لمتابعة مسيرة لوقيانوس الفتى والدخول إلى قلب العلم عن طريق أساتذته تابعت ما كتبه عن تلك المرحلة لأكتشف أنه قد درس على معظم المعلمين الكلاسيكيين، وحفظ عن ظهر قلب أشعار هوميروس، وقرأ هزيود، وبندار، وسيموند، وقرأ معظم مسرحيات الكلاسيكيين، وخاصة يوريبيدس والكتاب الكوميديين كـ"أرستوفان".
لم ينس لوقيانوس دراسة الفلاسفة كأفلاطون، وأرسطو، وكريسيب، وأبيقور.. وقرأ للمؤرخين هيرودوت، وتوسيديد، وتابع في إجلال مسيرة الخطيب المعروف.. ديموستين… وأنهى لوقيانوس مرحلة التعلم واختار لنفسه مهنة المحاماة، وراح يترافع في أنطاكية لفترة، وما لبث أن سَئِمَ هذا العمل، فسافر إلى عاصمة النور في ذلك الزمان "أثينا" جدة باريس المعاصرة اليوم، ومستبدلاً مهنة المحامي بمهنة السفسطائي، وكان السفسطائيون خطباء رائعين…. ينتقلون من بلد إلى آخر، فيلقون خطبهم أمام الأغنياء ليجنوا من عملهم المال الكثير المنهال عليهم.
شعر لوقيانوس أنه قد ملك زمام الخطابة، فمضى يقيم حفلات يكون فيها الخطيب المفوه الوحيد، وفي تلك الأثناء دهمه مرض في العيون جعل متابعته العمل صعبةً، فرأى أنّ عليه السفر إلى روما ليعرض نفسه على طبيب في العيون انتشر صيته إلى "إيونيا"، فلقي هناك الفيلسوف نيقرينوس الذي سبق له التعارف معه في "أثينا"، فتأثر بخطبه كثيراً حتى كاد أن يحول معارفه وشهوته من المعرفة الشاملة إلى… الفلسفة…. ولكن مَجْد الخطيب المفوَّه -المحاط بالمعجبين المتجمهرين من حوله بعد كل خطبة جميلة له- غَلَبَه، واستمر يعمل خطيباً سفسطائياً !.
ولكنه بعد مجد طويل أخذ مردود العمل كخطيب سفسطائي يتراجع، فانتقل إلى العمل في محكمة يدير أعمالها الكتابية، وها هو يصفها فيقول:
"أُعيِّن الجلسات، وأحدد مواعيدها حسب الدور، وأمسك بسجلاتها، إذ يجب أن يكون في السجلات كل ما يقال، وما يحدث، وأرتب دفاعات المحامين وأحفظ حكم القاضي في تلك القضايا، ثم أودعها المحفوظات العامة".
وكان يتقاضى لقاء كل هذه الأعمال أجراً كبيراً ، ولكنه كالمتنبي الذي سيخلفه بعد قرون كان يطمح إلى دور سياسي كبير كوالٍ على "بُخارى"، أو الشام مثلاً، أو حاكم مقاطعة إلا أنه تُوفِّي قبل أن يحقق أمنيته، فيسعد والديه في قبريهما، ويغيظ أبناء حارته !! الذين عرفوا طفولته القاسية في صعوده !!! حدد المؤرخون سنة وفاة لوقيانوس في حوالَيْ نهاية عهد كومودوس أي ما قبل عام 192 مما جعلنا نُثبت تاريخ وفاته قبيل عام 192 أي قبل بلوغه عمر السابعة والستين .
على أية حال فالعالم القديم لم يعرف لوقيانوس باسمه إلا بسبب طروحاته الجديدة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتابته عن الصعود إلى السماء وإلى ما تعذر الوصول إليه من الأرضيين، بل إن له غزوة لم نعرفها لغيره ثبتها في كتبه سأستشهد بها في هذا المقام، "النزول على القمر" فبعد رحلة صاخبة، هناك أي على القمر تم القبض عليه وعلى رفاقه الذين أخلصوا له، حينها سينجح لوقا في إنقاذ مجموعته التي سافرت معه إلى القمر، من العقوبات التي كان حاكم القمر سيفرضها عليهم حيث إن التسلل إلى القمر كان ممنوعاً تماماً، من قِبل حراس القمر، حتى يعرض عليهم حاكم القمر أن يروي لهم قصته، فيبادر أسرى الأرض إلى التهليل فرحين بأنهم سينتقلون من كونهم موتى مؤجَّلين إلى محكِّمين في الحكاية التي سيرويها.
يبدأ حاكم القمر يروي انتقاله، من الأرض إلى القمر حيث سينصبونه حاكماً غريباً عن القمر كعادتهم القديمة في جعل الحاكم من الغرباء ويحدثهم عن اختطافه من الأرض دون أن يجد مَن يدافع عنه، ولكن القمريِّينَ حين ينادون به حاكماً عليهم يوقف احتجاجاته، ويصمت قابلاً المُلْكَ، ليبدأ رحلة الحاكم العادل الذي سيواجه المعتدين، ولن يسمح لهم بإقامة مستعمرة على القمر، فيما بعد سيتأكد لوقيانوس، أنهم عائدون إلى الأرض فيهتف بأنه أول المتطوعين للدفاع عن القمر ضدّ الغزوة الجديدة والمعتدين من الغزاة الشمسيين، وحين تكون المعركة في اليوم التالي ينادي لوقيانوس رجاله للحماسة في الدفاع عن القمرِ المَغْزُوِّ من الشمسيين، وتكون المعركة لصالح القمريين لكنهم حينما يبدؤون في جمع ما تركه الغزاة يتنبه الحاكم الغازي المهزوم إلى القوات المساعدة التي وصلت لعونه ويهاجمون جامعي الغنائم فيهربون وهكذا تتحول الغزوة إلى معكوسها وينتصر الغازي على القمريين .
بعد استقرار المحاربين الغزاة والمهزومين، يبدأ الشمسيون بقطف ثمرة الغزو وتكون في إغلاق المتنفسات جميعاً وفي حبس القمريين ضِمن المدينة .
هذه الحكاية الطريفة عن غزو القمر وهزيمة سكانه الأقزام التي ما تلبث أن تتكلَّل بانتصارات وهزائم على الأرض حين يعود إليها ليصطدم بسيد الرجال والغزاة والقبض عليه، ولكنه ينزلق مع عدو من رجاله إلى أحشاء الغازي الضخم جداً حتى ليهزم كل مَن تعرض له وحكم العالم عن طريق أحشائه.
يبدأ لوقيانوس رحلته الجديدة ليفاجأ بسيد قبرص وابنه، وقد نجوا من موت محتوم وها هما يعتنيان بأرض من أراضي رجال الغازي ولا تكتمل سعادة لوقيانوس إلا حينما يفاجأ بمجموعة أخرى من الناجين المحافظين الراغبين في هزيمة الرجل الذي وقف في وجههم، ولكنهم ينهزمون ويُقبض عليهم وتعمّ المتدخلين فرحة الإفراج عنهم، وهنا يتحولون إلى ممنون عليهم من قِبل لوقيانوس ورجاله، ثم يقررون قتل حاكم المركبة التي يحتلونها ويقودونها وبهذه الطريقة وحدها ينجحون في قتل الطاغية الحاكم والنجاة من الحبس في سفينة القاتل العملاق والذي يقاسي من خيرات المغامرين عابري البحر.
إن عوالم لوقيانوس غرائبية بشكل لا يصدق، نهل منه العشرات من الكُتّاب والمفكرين، من مثل أبي العلاء المعري ودانتي أليغييري، وربما حتى ابن عباس في كتابه "المعراج". ولكنه يظل أبا السرد السوري بلا منازع، روائياً وخطيباً ومحاوراً لا نظير له، ضاقت به الأرض السورية كثيراً، فأطلق العنان لمخيلته في الإبحار بعيداً جداً. لم يترك لوقيانوس مطلقاً أي أثر روائي واقعي يصف لنا به حال وأحوال سورية في ذلك الزمان، مثل أي رواية واقعية أو مسرحية يونانية تعكس رموزاً أرضية، لكنه حمل أحفاده بعيداً عن آلام تلك الأرض مُحطِماً بوابة الواقع بمِطْرَقة الخيال والحُلم.
Author
-
روائي ومفكر وكاتب رأي وكاتب سيناريو ومؤرخ سوري ولد في دمشق ويقيم في فرنسا