اختلفت بطولة كأس العالم الحالية والمقامة في قطر عن سابقاتها بالكثير من الملامح والخصائص جعلتها بالفعل نسخة مميزة عن سواها على الأقل في عيون الشعوب العربية والإسلامية. يمكن لأي متابع للبطولة والإعلام العالمي أن يتعرَّف على الكثير من تلك الملامح على مستوى التنظيم والحضور الجماهيري والقوانين الناظمة للبطولة والحاضنة الاجتماعية وحتى المفاجآت الكروية، لكنني أود أن أركز على أربع نقاط مهمة وإستراتيجية، ربما يعرفها الكثير من الباحثين والمفكرين والمثقفين، لكن هذه البطولة أخرجتها من الأعماق إلى السطح وجعلتها واضحة أمام عموم الناس في الشرق والغرب.
1- ما زال الإسلام يشكل العمق الحضاري والصورة النموذجية في الوعي الجمعي وخشبة الخلاص التي تتمسك بها الشعوب العربية وتدرك في أعماقها أنها الوسيلة الأجدى لنهضة دولهم من جديد وتلبية طموحاتهم الحضارية كشعوب تمتلك موروثاً حضارياً مشرفاً وتستحق أن تعيش حياة أفضل، وقد ظهر ذلك واضحاً من خلال ممارسات وتعليقات وتصريحات الكثير من أبناء هذه الأمة خلال هذه البطولة وكردة فعل على العديد من التصرفات والتصريحات الاستفزازية الغربية التي طالت الجانب الأخلاقي والاجتماعي والثقافي للشعوب الإسلامية والعربية، وذلك بمجرد توفير فسحة وبيئة مناسبة تعبر فيها الجماهير عن مكنوناتها، بالرغم من حملات التشويه والتغريب والتشويش التي تمارسها جهات عديدة بشكل ممنهج وبدعم غربي بهدف مسخ الهُوِيَّة الإسلامية والتشكيك بقدرة الإسلام على النهوض بشعوب المنطقة من جديد ومحاولة زرع أجسام غريبة عن جسد الأمة وتقديمها كبديل ثقافي واجتماعي عن هويتها.
2- رغم النزاعات الحدودية والصراعات السياسية المفتعلة، ورغم نشاط الكثير من المواقع الإعلامية ووسائل التواصل والحسابات المشبوهة لبث بذور الخلاف والفتنة بين الشعوب العربية والتركيز على حوادث فردية وتصرفات عنصرية منبوذة لتكريس صورة الشعوب المختلفة وتأكيد حالة الكراهية والتباغض بين الشعوب العربية إلا أن موجة الفرح والتعاطف التي أبداها معظم العرب عند فوز السعودية على الأرجنتين وفوز المغرب على بلجيكا وفوز تونس على فرنسا تُظهر بوضوح أن الشعوب العربية تمتلك مخزوناً كبيراً من المحبة والتعاطف والشعور بوحدة الهدف والمصير والهُوِيَّة والمشاعر والتاريخ على خلاف حالة النزاع السياسي والتنابذ الإعلامي المقصود بين مختلف دولها.. حتى أن “الواشنطن بوست” عنونت: “الانتصار السعودي يوحد الجماهير العربية والإسلامية في عواصم العالم” . والحقيقة أن الانتصار أظهر التعاطف الكامن ولم يُوجده .
3-إن الهجمة الغربية التي استهدفت قطر مع قرب موعد البطولة لأسباب غير منطقية وحُجج واهية تدل على النزعة الاستعلائية التي يمارسها الغرب في محاولة منه لفرض نموذجه الثقافي والأخلاقي والاجتماعي الفاشل ظناً منه أن التقدم التقني والقوة العسكرية تستوجب وجود تفوق ثقافي وأخلاقي واجتماعي.. مع أن نموذجه الثقافي لا يقنع قسماً كبيراً من مواطنيه.. ما قام به الغرب هو ببساطة بلطجة ثقافية سترتد آثارها على المجتمع الغربي، وعليه أن يدرك أنه لا يمتلك العمق والنموذج والتوازن الثقافي والحضاري الكافي لمواجهة عمق وشمولية وتوازُن وجاذبية الإسلام وانسجامه مع الفطرة الإنسانية النقية.
4- ترفض الشعوب العربية التطبيع الثقافي والاجتماعي مع الكيان الصهيوني، وتدرك أن محاولة الصهاينة للاندماج في النسيج الاجتماعي للمنطقة إنما هي خطوة نحو السيطرة الفعلية التامة على المنطقة ومقدراتها وثقافتها والانتقام التاريخي من الإسلام ومحاولة مسخ هُوِيَّته وضرب جذوره.. الكيان الصهيوني يسعى لاستعباد الشعوب العربية لا للتعايش معها.. والشعوب العربية تدرك ذلك.. وقرار الشعوب برفض الاندماج والتعاطي – حتى الإعلامي – مع الصهاينة هو إشارة واضحة منها إلى حقيقة موقفها، والحضور الكثيف للعَلَم الفلسطيني خلال البطولة العالمية هو تعبير ذكي من الشعوب على إدراكها أن هذا الكيان غريب عن الجسم العربي والإسلامي حتى لو كان القرار السياسي لبعض الدول يسير باتجاه التطبيع تحت ضغط الترغيب أو الترهيب.. لقد أثبتت الشعوب أنها أكثر مسؤوليةً من سياسييها وأن الضخ الإعلامي نحو التطبيع لا أثر عميق له على وجدان الشعوب..
بالطبع لن أكون ساذجاً كي أقول إن كل الشعوب العربية تحمل في وعيها ووجدانها مشاعر المحبة للشعوب الأخرى، أو إنها جميعاً تعتبر الإسلام سفينة خلاصها من واقعها السيئ، أو إن الجميع يرفضون التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكنني أستطيع متكئاً على الحالة الجماهيرية العفوية التي أفرزتها بطولة كأس العالم أن أدّعي أن الكتلة الكبرى من الشعوب العربية والإسلامية تتحرك انطلاقاً من تلك الثوابت وتطمح أن تحافظ عليها.
لقد نجحت قطر حتى اللحظة في صناعة أذرع ثقافية وحضارية للحدث الرياضي، وحركت بالرياضة ما قد يصعب تحريكه بالسياسة والإعلام، واستفزت القوى الكبرى وصانعي القرار العالمي وأدواتهم في المنطقة بطريقة ناعمة وعميقة، وأتمنى أن لا تدفع قطر مستقبلاً ثمن النموذج الثقافي والاجتماعي والأيديولوجي الذي قدمته والذي يتجاوز بكثير حجمها الجغرافي .