في خضمّ الصراع المحتدم في المنطقة على الثروات والنفوذ دولياً وإقليمياً، تبدو معركة السيطرة على العقول والهيمنة على الوعي وتدجين النفوس وتدمير المعنويات محتدمة ومستمرة، وبأساليب مختلفة وأدوات متباينة، ولأن الإسلام شكّل في الماضي (في عهد الاستعمار) عقبة كؤوداً في وجه الاحتلال والمعتدين، وحفظ القرآن اللغة العربية في معركة الهُوِيَّة والفرنسة وغيرها، ولأن الجهاد شكَّل إلهاماً للشعوب في الثورة على المستعمر والمحتلّ ومقاومتهم، فإنّ استهداف الإسلام ومنهجه في الحياة ودُعاته ومفكريه كان في الماضي والحاضر الشغل الشاغل لمن أراد الهيمنة على الأمة ومقدراتها وكسر إرادتها؛ خصوصاً أنه يمكن بسهولة رصد أنه لم يكن للمسلمين سبيل للنهضة ودور بين الأمم ماضياً وحاضراً لا بل ومستقبلاً إلّا من خلال التمسك بالإسلام والالتزام بتعاليمه.
ففي العصر الحديث على سبيل المثال، كانت نهضة الدول الإسلامية كماليزيا وإندونيسيا وتركيا بمقدار اقترابها من الإسلام أو في أضعف الإيمان التصالح معه والتوافق مع مناهجه. وإذا كان المنهج الرأسمالي قد أخفق في الحكم اقتصادياً وأخلاقياً بالرغم من التطور العلمي، ومن الكيد الدولي المتواصل على بلادنا من خلال دعم الاحتلال الصهيوني وزرع المستبدين الفاسدين حكاماً في غالبية دولنا لنبقى لهم ولأسلحتهم أسواقاً استهلاكية، فإن الأحوال الاقتصادية في الغرب تستدعي الإمعان في تدمير دولنا وتفتيتها وتجزئة المجزَّأ أصلاً.
صناعة التطرف الإسلامي وجماعات القاعدة وداعش غربياً ودولياً، إما بشكل مباشر وإما من خلال الاختراق والدعم المادي وفتح مجالات الإعلام لهم ولتضخيمهم، صناعة تمت بأسلوب ساخر لا يحترم العقول ولا يأبه بالمنطق، ولكنه منطق القوي المستكبر. فمواقع النت المفتوحة للتطرف يمكن رصدها بسهولة وتتبعها أمنياً والسيطرة على من يشارك فيها، ناهيك عما حصل في سورية الأسد بإطلاق سراح “المتطرفين” في بدايات الثورة والهروب المبرمج لسجناء أبو غريب وتسليم الموصل والمليارات والأسلحة المتطورة لداعش والتي كانت مواكبها الطويلة تمضي في الصحاري والقفار دون استهداف طائرات التحالف والروس والأسد لها، وكان استهداف تلك الطائرات فقط لأسواق ومدارس ومساجد حواضر مدن السُّنة وقراهم! الغاية والهدف من صناعة “داعش” وتسويقها أن يكفر الناس بالإسلام منهجاً وسبيلاً، ولإخراج الجهاد من ضمائرهم وربطه بأذهانهم بالإرهاب والإجرام، وأن يمنع الناس من إغاثة الأيتام والمهجرين والأرامل مخافة اتهامهم بتمويل الإرهاب.
ولاستكمال هدف إقصاء الإسلام، اُستُهدِفت الجماعات الإسلامية المعتدلة وبشكل أساسي “الإخوان المسلمين” خصوصاً بعد أن أظهرت نتائج انتخابات “الربيع العربي” أن لهم قبولاً كبيراً بين الشعوب، وأن لديهم كما تركيا أردوغان مشروعاً للنهضة، وأنهم لا يقبلون بأن يعامل الغرب والشرق شعوب المنطقة كغرباء في بلادهم. فتم التعامل بوحشية بالغة مع مرسي وإخوانه ليكونوا عبرة للحركات الإسلامية وتمت معاقبتهم عقوبات قاسية لنجاحهم في الانتخابات ولأنهم وفي عام واحد ورغم الحصار حققوا إنجازات كبيرة ولأنهم نظيفو اليد والضمير، فقد عجز السيسي برغم ظلمه وفجوره أن يتهم إخوانياً بتهم الفساد أو نهب المال العام.
الإسلاميون مستهدفون؛ وبأشكال متعددة (ليتم من خلال تلك المعركة استهداف الإسلام والهيمنة على الأمة)، فمن لم يتم سحقه كما في مصر، يتم استدراجه لمواقف سياسية سلبية ومهينة (ما بين الترهيب والتحذير والأحاديث الملغومة) كما حدث في المغرب، كالتطبيع مع الصهاينة ومن ثَمّ يقوم الإعلام المتصهين بحملات محمومة تتهم الإسلاميين بأنهم بلا مبادئ وبأنهم تجار السياسة مثلهم مثل بقية العملاء من حكام وأدوات. أما في سورية فقد تمّ إدخال الإخوان في تحالفات ومواقف سياسية إما عبر الإقناع والخداع أو الضغوطات خلال الثورة السورية، أفقدتهم الكثير من الصدقية والمصداقية لتغيب عن مواقفهم المبادئ والقيم والتي كانوا أهلها وأصحابها.
في العديد من الدول العربية تم ويتم استهداف خيرة الدعاة والمفكرين والأكاديميين ليُرْمَوْا في غياهب السجون ولتخلو الساحة للأقزام وعلماء الدرهم وشيوخ حكام الزور والفجور، أو بالضغط على مشايخ وعلماء لهم قبول أيضاً (لا أستبعد التهديد بالأعراض) وبتقديم الإغراءات لهم ليكونوا في مواقع مهينة مذلة كدوري البلوت أو يصرحوا بتصريحات مخزية معيبة، ليكونوا عرضة للسخرية والاستهزاء، والهدف الأساسي هو إخراجهم والإسلام وقيمه من قلوب العامة. الملاحظ أن الإعلام الغربي بل وحتى الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان والتي تتبنى قضايا بعض السجناء في دول عربية، لا تكاد تبدي اهتماماً بالإسلاميين والدعاة بشكل عام.
ولما كانت المقاومة الفلسطينية الإسلامية تشكِّل إلهاماً للشعوب في زمن الخلاعة السياسية والخنا الإعلامي، خصوصاً وأن بوصلتها تركزت فقط على الاحتلال ولم تتورط في معارك مع أنظمة عربية فقد تم استهداف تلك المقاومة بشدة وشراسة، وتم العمل على استهدافها معنوياً وأخلاقياً لإسقاطها من ضمائر الشعوب وإخراجها من قلوبهم؛ تم حصار غزة حصاراً قاسياً وبمشاركة عربية، واستهدفها الإعلام العربي الليكودي بفظاظة وقسوة. لم يكن من هواء ليدخل غزة ولا دواء ولا طعام، وفي خضم الحصار القاسي والمحكم، سمح (بطريقة أو أخرى) للأوكسجين الإيراني الملوّث بدماء السوريين والعراقيين أن يدخل لرئة غزة ومقاومتها، وكانت لضغوطات وربما اجتهادات شخصية فلسطينية عاثرة دور بقيام بعض المحسوبين على المقاومة بالثناء على إيران ودورها (ويا له من دور) وعلى قاسم سليماني!
وبلغ الكيد مداه وتعمقت حفرة الفخّ، فتم إقناع حماس أو الضغط عليها لمصالحة الأسد وزيارته وإطلاق تصريحات غريبة لا تمتّ للواقع أو القيم أو الأخلاق بصلة من ممثليها في دمشق المستباحة والمحتلة. الأسد السفاح الأكثر إجراماً ودموية والذي ما ترك وسيلة إجرامية إلا استخدمها لقتل السوريين الأبرياء وتهجيرهم، الكيماوي، الاغتصاب، البراميل المتفجرة والتجويع حتى الموت، وما كان لعاقل أن يتخيل أن مَن قام بأكبر عملية تطهير عرقي ضد العرب السُّنة ومن ثَمّ فتح سورية للاحتلال الروسي والصفوي وجعلها مستباحة أمام الصلف الصهيوني، سيحج إليه البقية الباقية مما تبقى للأمة من عناوين المقاومة والإباء.
الهدف إسقاط نموذج المقاومة الإسلامي الذي تعشقه قلوب العموم وتتبناه عقولهم، ومن ثم تنطلق عبارات التخوين والتحقير من إعلام عربي ليكودي متصهين، بحق غزة ومقاوميها، ومواقف ناقدة من غيورين على المقاومة وعفتها. وتعميق الانقسام السني. المؤلم أن زيارة الأسد ترافقت أو سبقها تراجُع في مواقف حماس في غزة، حين استهدف الصهاينة غزة وحركة الجهاد الإسلامي فنالت مديح أنظمة عربية رسمية على “نضجها” و”حكمتها”، كما سقطت تهديداتها للصلف الصهيوني من استهداف الأقصى وصعد الصهاينة من اعتداءاتهم على الأقصى فيما حماس وبعض قادتها (ومنهم السنوار والذي حذر الصهاينة من الاعتداء على الأقصى) يمتدحون إيران ودورها والأسد وصموده، في حين ارتكبوا (إيران والأسد) من الجرائم ما يغطي على جرائم التتار والمغول بحق العرب والسُّنة.
الأمة مستهدَفة، وبالتالي فإن إسلامها مستهدف من خلال وسائل كثيرة، من أهمها حالياً محاولات اغتيال الحركات الإسلامية الإصلاحية مادياً أو معنوياً أو أخلاقياً وتشويه صورتها في العقول والنفوس وإخراجها من القلوب، وإن كان كيدهم لتزول منه الجبال، لقد سقطت قيادة حماس السياسية سقوطاً أخلاقياً وقيمياً مدوياً وكبيراً في فخّ عميق ومهلك، وما من سبيل لحفظ ماء الوجه وما قدمه الشهداء والصابرون والمصابرون، إلا أن تقوم تلك القيادة والتي أقرت وباركت زيارة سفاح سورية، بالاعتذار والاعتزال وبشكل نهائي لا رجعة فيه ولا عودة عنه!