تكثر اليوم على ألسنة الناس والمتابعين، مسألة تسيُّدِ القطب الواحد الذي يُسيِّر العالم وفق إرادته وقوته، ويخضعه، بالتالي، لسياسته ومصالحه. وقد ازداد الحديث، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فعدَّها بعضهم إعلاناً لعودة القطب الروسي، وإعادة التوازن المفقود.
إن المسألة في عمقها ليست مسألة أقطاب وتوازُنات عالمية بل هناك أمور أخرى لها علاقة بنمو الحضارات، وارتقائها، وبتراجعها، وانحدارها، ثمَّ بموتها عند شعب لتحيا لدى شعب آخر.
وللمسألة علاقة بتاريخ الإنسان الذي كان على مداه الطويل “تاريخ البحث عن الطعام” (بحسب ماركس)، وتحوَّل، ذلك البحث مع تطور حياة الإنسان إلى صراع اقتصادي عميق، يفترض أن يتوجه أقطابه، إذا كانت النوايا سليمة، نحو تلبية حاجات البشر أجمعين تلبية سلميَّة وديمقراطيَّة، ومن خلال ردم الهوة التي تزداد اتساعاً بين الدول المتقدمة والأخرى المخلَّفة بعيداً عن نزعة السيطرة، والاستعلاء، وإشعال الحروب، والإفساح في المجال أمام طموح الإنسان المعرفي وتمكينه من تجاوُز مشكلاته ومنها: اجتثاث أسباب الحروب وبواعثها وويلاتها.
وإذا ما أردنا إحاطة أوسع في مجال القطبية والأقطاب يمكننا تسجيل النقاط التالية:
أولاً- إن النزاعات والحروب لازمت حياة الإنسان، منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وأظنها بدأت مع تكوُّن أولى الخلايا الاجتماعية إلى أن غدت دولاً وجيوشاً تشعل حروباً، وقد برَّر بعض العلماء الحروب قبل أكثر من قرنين، بعدَّها ضرورة موضوعية للحد من زيادة عدد السكان (نظرية مالتوس)، وبررت النظرية إبادة شعوب بأكملها، كان ذلك، في وقت لم تكن العلوم فيه قد تطورت إلى ما هي عليه اليوم، وكذلك لم يكن إنتاج المواد الغذائية قد نما، كما هو اليوم، إذ يزيد أحياناً عن حاجة مجموع سكان الأرض كافة.
لكن ما يفتقده البشر هو العدالة في التوزيع، وما تسببه الحروب من نقص. والأسباب دائماً في الاعتداد بمظاهر القوة، وفي البحث عن مناطق النفوذ.
ثانياً- إن الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تقدهما أقطاب، بل كان ثمة تحالفات اكتملت قبيل اندلاع كل منها..
فالحرب الأولى كانت تصفية للدولة الإقطاعية التي لم تعد معها علاقات الإنتاج السابقة تلبي حاجات التطور الموضوعي.
وأما الثانية فجاءت لتقسيم مناطق النفوذ بين الدول المنتصرة! وربما رغبة من هتلر في تسيُّد العالم كما هو الحال مع بوتين اليوم.. وفي سني الحرب الباردة لم تتوقف الحروب! ربما غدت ثنائية أو أكثر أو أهلية. ولم يوقفها القطبان بل تلوثا بحروب أخرى.
ثالثاً- إنّ الحياة عموماً قائمة على التناقض، ولعلها لانهائية التضاد، أي إن التناقض، يشمل ثنائيات الحياة كافة، ومن خلال حركتها الطبيعية تنمو وتزدهر، ولكن لدى احتدام الصراع، بسبب خلل ما، قد يودي بحياة طرفي التناقض عندئذ لا بد من تسوية عقلانية. بيد أن الرئيس بوتين، وبما يستند إليه من قوة سلاح، وما يلازمه من شعور بالعظمة، ونقص في غيرهما مما هو أساس للسلاح ولازم له، فقد صوابه، بل وصل حدَّ الجنون، فهو يريد لذلك الاحتدام أن يأخذ مداه الأبعد راغباً في تركيع الآخرين أو البلاء الشامل، ولعله يدرك أن الآخرين أكثر حكمة وعقلانية.
رابعاً- لا شك في أن مصادر القوة قد تطورت عبر التاريخ كماً ونوعاً، وإذا كان الاعتداد، اليوم، بالسلاح قوة تدميرية قاهرة، فلا بد له من اقتصاد قوي، يدعمه علم متقدم، وتكنولوجيا رفيعة التطور، كما لا بد له من حكمة أو عقل جمعي يتماشى مع روح العصر، ويكون قادراً على التقاط لحظة مشروعية استخدام السلاح.
وفي عصرنا تلعب الديمقراطية دوراً رئيساً في تكوين ذلك العقل، بل في كل روافد القوة الرئيسة.
خامساً- غالباً ما تأتي الحروب تغطية لنقص ما في كيان الدولة المعتدية، وهو اليوم في روسيا يعود إلى عدم قدرتها على اللحاق بأمريكا وبدول الغرب عموماً في بعض مجالات التكنولوجيا رفيعة التطور، وفي اقتصادها الذي لا يزال يدور في فلك بيع المواد الخام، وصناعة السلاح..
يضاف إلى ذلك كله وصول الشعب الروسي إلى نظام ديمقراطي فعلي لا مجال للتلاعب في أدواته ومبادئه العامة.
سادساً- إن كل التبريرات التي ساقها بوتين في خطابه الذي بثه في الحادي والعشرين من شباط الماضي لم يكن مقنعاً لا في تسويقه لفكرة أن أوكرانيا هي روسيا.. والرابط بينهما أكثر من ثقافة واحدة، وتاريخ مشترك، وقرابة بين الشعبين، بل هي جزء من روسيا وهو عازم على استردادها، وانتقد، في السياق نفسه، كلاً من لينين وستالين فالأول منح أوكرانيا استقلالاً ذاتياً من خلال “صلح بريست” للسلام الذي وقعه لينين في 3 آذار 1918، بينما أنشأ الثاني فيدراليات لحكم الاتحاد السوفييتي.. وأدان الاثنين إذ كانت غايتهما البقاء في الحكم وترسيخ النظام الشيوعي.
وكأن بوتين اليوم منزَّه عن الحكم، وغير متمسك به منذ اثنين وعشرين عاماً، ويحاول أن يمدَّها حتى عام 2036 بصنعه أمجاداً دموية يدغدغ بها عواطف بعض الروس ومشاعرهم القومية.
سابعاً- في الحقيقة إن العالم راغب بوجود نظام عالمي جديد، فاعل ومؤثر، نظام قادر على تنفيذ قرارات أممية، لا تكيل بمكاييل متباينة، كما لا تعطي حقاً لدولة أو لمجموعة دول دون أخرى، ميزات تخصها أو تبيح لها التجاوز على غيرها أو أن تسقط مشاريع قوانين في الهيئات الدولية في حال تعارضت مع مصالحها، كما فعلت روسيا بعرقلة التسوية في سورية فأبطلت ستة عشر مشروع قانون في مجلس الأمن منها ستة تخصّ استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي وقتل الآلاف من السوريين جلهم من الأطفال والنساء.
أخيراً أقول: إن العالم كله ينتظر نتائج الاجتياح الروسي لأوكرانيا وقد يكون الجيش الروسي هو الأقوى، بل هو كذلك فعلاً، ولكن مثل هذه الحرب لا يحكم نتائجها قوة الجيش، مهما ارتكب من فظائع.. بل عوامل القوة الأخرى التي ذكرت، مضافاً إليها سخط العالم، بما في ذلك سخط نخب من الشعب الروسي تجاه هذه الحرب العدوانية بامتياز.. يقابلها صلابة الموقف الأوكراني المدافع عن وطنه.. وفي كل الأحوال ستكون النتائج كارثية على روسيا وشعبها ورئيسها ونظامه!.