نداء بوست- محمد جميل خضر
بدون سابق إنذار، ولا ترتيبات مسبقة، أصبح العاشر من تموز/ يوليو 1943، بوصفه يوماً من أيام الحرب العالمية الثانية، كابوساً يقلق ليل القوى الجاسوسية والاستخبارية البريطانية. إنه اليوم الذي حدده رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (1874-1965) موعداً لأكبر إنزال في حينه فوق شواطئ جزيرة صقلية (أكثر من 100 ألف جندي وآلاف القوى اللوجستية والمدافع والذخائر والعتاد والآليات والمدرعات)، ولم يقتصر إعلانه هذه النية لمحيطه وقواته، بل أبلغ الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1882-1945) بنواياه تلك، وبالتالي، أصبح ذلك اليوم، تاريخاً ملزماً لإنجاز ذلك الإنزال. الإرباك الذي وُضِعت فيه قواته المقاتلة والأخرى المخابراتية والجاسوسية بسبب تعهدات تشرشل تلك، هو موضوع الفيلم الدرامي الحربي الإنكليزي الطويل operation mincemeat “عملية اللحم المفروم” من إخراج جون مادِن عن واحدٍ من الملفات البريطانية حول الحرب التي وثّقها الكاتب الإنكليزي بِن ماكنتاير في كِتاب حمل الفيلم اسمه، وكتب السيناريو له مايكل أشفورد
بدون انحرافات تقريباً عن النص المتعلق بتفاصيل تلك العملية الاستثنائية، يصنع مادِن ومن معه شريطاً سينمائياً ممتعاً، لا يدير الظهر لمختلف عناصر الفن السينمائي ولغته ومؤثراته وميكانيزمات بهجته. الموسيقى حاضرة، وكذا الإضاءة والكوادر والألوان ومواقع التصوير والأداء التمثيلي المقنع اللافت ومتواليات التشويق وملامح الإبهار. ولكن الأهم من كل هذا وذاك، برأيي، هو التصاعد الدراميّ الجميل والمتعلّق بتورط الفريق الذي يشرف على الحبكة الجاسوسية بالقصة التي نسجوها من وحي خيالهم، فإذا بها، تلك الخدعة الكبرى، تصبح من لحم ودم وتكبر وتتفاعل أمام أعينهم. والقصة أن الجاسوسية البريطانية كُلِّفت بتدبير حيلة محبوكة بعناية لإيهام هتلر ورايخه أن الإنزال سيكون على شواطئ اليونان، وليس صقلية. وأن تكون حيلة غير تقليدية ولا تحتوي على نقاط ضعف، وغير قابلة للشك أو التكذيب. من أجل كل هذا وذاك اقترح الرائد تشارلز تشولمونديلي (الممثل ماتثوي ماكفادين Matthew Macfadyen) خدعة تتلخص بأن يحضروا جثة ويوصلوها لشواطئ إسبانيا التي تبنّت الحياد، تقريباً، طيلة سنوات الحرب، على أنها جثة ضابط بريطاني كان مكلفاً بإرسال رسالة لقواته والحلفاء تتضمّن معلومات كاذبة عن الإنزال في اليونان وموعده وأهميته، وأنه غرق خلال محاولته تأديته مهمته وإيصاله الرسالة. إلى هنا الأمر عادي ولا يخرج عن نطاق العمل المخابراتي الذي يحتمل كل ألاعيب الظلام وتفتقات الخفافيش، إلا أن الطرافة الكبرى داخل أحداث الفيلم وصيرورته، تحققت عندما بدأ الفريق المكوّن من تشولمونديلي نفسه، ومعه الرائد أوين مونتاجو (الممثل كولِن فيرث Colin Firth) والزميلتان جين ليزلي (الممثلة كيلي ماكدونالد Kelly Macdonald) وهيستر ليجيت (الممثلة بينيلوب ويلتون Penelope Wilton)، بتعميق الفكرة، وتعزيز فرص نجاحها، وخلال اجتماعاتهم الليلية المكثفة اتفقوا أنه لا بد أن يكون لهذه الجثة اسم وتاريخ وملامح وسرديتها الخاصة بها، فهو مثلًا بحسب مواصفات الجثة وملامحها لا بد أن له صديقة يواعدها كلما كان ذلك ممكناً. ومن المفترض أنه يضع صورة لحبيبته في جيب سترته، وهكذا تكبر الفكرة ويصير لها رِجلان ويدان. ولكن الأكثر بلاغة داخل الشريط، أنهم وبعدما اختاروا جين نفسها لتكون محبوبة الجثة التي باتت تحمل اسماً هو ويليام مارتن، وتحمل رتبة رائد في القوات البحرية الملكية، وبعدما أخذوا صورتها (منحوها هي الأخرى، بوصفها حبيبة وليام، اسمًا جديدًا هو بام) لوضعها في البزة العسكرية التي سيلبسونها للجثة، بدؤوا يتقمصون دور الجثة، ويتقربون لا شعوريّاً من جين/ بام، وبدأت، حتى الغيرة، تتسلل إليهما. مرّة يقدّم لها أوين خاتماً على اعتبار أن ويليام لو كان حقيقيّاً فحتماً كان سيفعل ذلك. مرّة يستأذنها تشارلز برقصة يفترض أن ويليام يفضلها عن غيرها من الرقصات.
حتى خلال اختيار الجثة فإن دقة الاختيار وحساسيته كانت حاضرة بقوة، فهي لا بد أن تكون جثة رجل قوي عمره بعمر من يؤدّون الخدمة العسكرية، وأن تكون في ذروة حركيّتها ولياقتها، وعليه وقع اختيارهم على جثة الشاب غليندور مايكل، الذي توفي بسبب تسمم انتحاري محتمل، ولم يمض على دخوله الثلاجة سوى يوم واحد، ولم يزره وقت احتضاره في المستشفى أحد من أقاربه، أو معارفه. جثة مثالية، أضافوا عليها اكسسواراتهم، وضخّوا في عروقها الباردة أفكارهم، فأصبحت رفيقة سهراتهم، تشاركهم، حتى موعد إرسالها للبحر المتلاطم الأمواج، جلساتهم ويومياتهم وأشجانهم.
باستثناء هذه التفصيلة، وتفصيلة أخرى تتعلق بالأمور (المشينة) التي اقتفرها عميلهم الكابتن ديفيد أينسوورث (الملحق البحري البريطاني) في إسبانيا لضمان حصول المخابرات الألمانية على محتويات الحقيبة التي كان يحملها الرائد ويليام مارتن (لم يختر الاسم من عبث، فهو اسم شائع بين أفراد وضباط البحرية الملكية البريطانية)، فإن باقي أحداث الفيلم تتحرك في إطاريْن رئيسيْن: إطار الجاسوسية وتشويقها، وإطار الحروب ومعاركها ودمائها وويلاتها.
إنه فيلم عن المرئي (الجنود على الجبهات) والمخفي (الصراع الاستخباري الجاسوسي) في القصة، أي قصة. عن القنابل والشجاعة والموت والأمل. ولكن أيضاً عن الظلال الرمادية، وغابة المرايا. عن الحدس والغريزة والزمن الصعب التي عانت منه أوروبا قبل أن تتخلص من طاغيتها الكاسح العنيد هتلر.
بغض النظر إن كان ثمة أفلام أخرى قبل “عملية اللحم المفروم” قد تناولت قصة الجثة الجاسوسية وخدعة صقلية، ومنها، على سبيل المثال، وكما يؤكد بعض النقاد، فيلم “الرجل الذي لم يكن” The Man Who Never Was المنتج عام 1956، استناداً إلى كتاب صدر عام 1953 يحمل الاسم نفسه من تأليف الرائد إيوين مونتاغو Ewen Montagu، أحد المشاركين، كما أسلفنا بالعملية، إلا أن للفيلم الجديد نكهته الخاصة به، إضافة إلى أنه مناسبة جيدة لمن لم يحضر الفيلم القديم، ويعشق، إلى ذلك، هذا النوع الخاص من أفلام السينما.
من الجمل اللافتة في الفيلم الطويل (128 دقيقة) المنتج نهايات العام 2021: “الحقيقة في الحرب الجاسوسية محمية بواسطة حارس الأكاذيب”. “مصير العالم الحُر تتحكم فيه جثّةٌ وعربةٌ وحمار”، وهي الجملة التي قالها تشارلز عندما وصلت الجثة الشواطئ الإسبانية، وعثر عليها صيادون بسطاء، ووضعوها على عربة يحملها فوق ظهره حمار.