في عام 1833 ونتيجة للصراع الأميركي الأوروبي، قرر الكونغرس الأميركي تحديد توجُّهات جديدة للتعاطي مع السياسات العالمية، يجسد هذا القرار مبدأ الحياد الكامل من قِبل مؤسسات الولايات الأميركية تجاه ما يجري من اضطرابات وثورات في أوروبا، وعدم تدخُّل الولايات المتحدة نهائياً بأي فعل كولوينيالي استعماري تقوم به أوروبا في العالم، في مقابل عدم التدخل الأوروبي التامّ بالسياسات الداخلية في القارة الأميركية بكاملها ومن ضِمنها ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة في داخل أراضيها أو فيما يتعلق بسياساتها مع دول الجوار وهي المكسيك وكندا وجزر الخليج الكاريبي… واستمر العمل بهذا القانون حتى بدايات القرن العشرين، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبدء انهيار إمبراطوريات القرون السابقة والتحضير لسدّ الفراغ في حكم النظام العالمي الجديد، حينها قدمت الولايات المتحدة الأميركية نفسها للعالم كقوة رأسمالية عادلة مُسانِدة لحقوق الإنسان، وداعمة لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم السماح بانتهاكات للإنسان في عموم العالم القديم الذي كان تَدَاعِيه مسألةً تحتاج وقتاً، وتدخلاً دولياً لسد الفراغ.
انفرجت أسارير سكان المنطقة لنفورهم الشديد من نتائج اتفاقية "سايكس- بيكو" 1916 التي تسرب قسم كبير منها بعد الثورة البلشفية 1917، مما أثار غضباً شديداً في الأوساط السياسية والشعبية، مما أدى إلى تفاؤُل واستقبال شعبي مهيب لأعضاء لجنة " كينج- كراين" في نابلس وفي دمشق وبيروت على حد سواء.
كان من المفترض أن تعرض اللجنة تقريرها النهائي بعد عودتها إلى واشنطن ومصادقة الكونغرس عليه، ولكن التدخلات السياسية وضغط اللوبيات أدى إلى إصدار تقرير موجز في عام 1922، كان قد سبقه موافقة مجلسَي الشيوخ والنواب على مبدأ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولم يُعرَض التقرير بصيغته الكاملة إلا في عام 1947، حيث كانت المفاجأة في تفاصيله التي كانت تتضمن موافقة أبناء سورية الكبرى على انتداب أميركي مشروط على سورية، إن كان لا بد من انتداب فعلي، ومن نافلة القول أن أبناء سورية الكبرى بأقاليمها الثلاثة كانوا على خلاف مع فكرة الصهيونية وفكرة الانتداب الفرنسي، بسبب اتفاقية "سايكس-بيكو" التي سقطت شعبياً و"وعد بلفور" الذي شَرْعَنَ فكرةَ نزع فلسطين عن الجسد السوري.
كانت أهمّ توصيات اللجنة: 1- ضرورة تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين والعدول نهائياً عن الخطة الرامية إلى جَعْلها دولة يهودية. ـ2- ضم فلسطين إلى دولة سورية المتحدة لتكون قسماً منها. 3- وضع الأماكن المقدَّسة في فلسطين تحت إدارة لجنة دولية تشرف عليها الدولة المنتدبة وعصبة الأمم، ويُمثَّل اليهود فيها بعضو واحد. كان ردّ فعل الدول المؤثرة حاسماً في رفض مقررات اللجنة.. عملت تلك الدول على إفراغ التوصيات من محتوياتها .
كان هذا منذ مائة عام وعام، واليوم لا يزال السوريون ينتظرون من الولايات المتحدة أن تحقق لهم العدل وأن تأتيهم بحقوقهم، كونها القوة الأكثر تأثيراً ونفوذاً في العصر الحديث، فمنهم مَن ينتظر السلام العادل، ومنهم مَن ينتظر قرارات المحاكم الدولية التي باتت أميركا عنصراً مهيمناً فيها، ومنهم مَن ينتظر تدخُّلاً حاسماً من الإدارة الأميركية من أجل القضاء على الديكتاتوريات العربية البائدة التي لا تقوم بشيء إلا أذيَّة شعوبها ودمار الأقطار العربية.
لقد حملت لجنة "كينج- كراين" أحلام وآمال الشعوب السورية في لبنان والشام وفلسطين وشرقي الأردن، إلى حاملة لواء الحريات حينها واشنطن، وكان الرئيس ويلسون صادقاً حينما أرسل اللجنة لتقصي الحقائق، ولكن التدخلات آتت أُكُلَها؛ لأن العرب كانوا عنصراً خاملاً في صناعة القرار، ولم يقدروا حينها -أي قبل مائة عام- أن يستشفُّوا الواقع السياسي واللعبة الديمقراطية التي كان خصومهم يجيدونها بشدة، تلك اللعبة التي تمنح اللوبيات قوة التأثير وإرادة التغيير في دوائر القرار في البلدان التي تمتلك ناصية القرار، ولو كان للمهاجرين السوريين المتدفقين منذ 1840 إلى الولايات المتحدة، لو كان لديهم وَعْي التكتل والتعاون، لكانوا باشروا في تكوين لوبي "سوري – لبناني – فلسطيني" مهم في واشنطن، ليُحدث تغييراً وضغطاً عظيماً على الكونغرس قبل السماح بتمرير قانون يسلخ أجزاء من سورية لصالح الآخرين.
اليوم يبدو السوريون وكأنهم قد فهموا الدرس فعملوا على التحرك في واشنطن دون غيرها، طالما تلك العاصمة لا تزال تملك القدرة على التدخل في أنحاء متعددة في العالم، واللافت للنظر أنه لو قُدِّر للولايات المتحدة أن ترسل لجنة جديدة إلى الشرق الأوسط، لكانت النتيجة مماثلة لتقرير 1919، فالوعود الأميركية للشعوب لا تزال مُشرِقة وبرّاقة، ولكن عقدة التنفيذ تبقى هي الفيصل، وما عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية إلا خير مثال على التفاوت بين النظرية والتطبيق الأميركيين.
إن أميركا نظام معقَّد ومتشعب في بناء السياسات التي تحكم العالم، لا تعتمد على فردانية الرأي والتسلط الأوحد في فرض القرارات وإنما تعتمد على سلسلة طويلة من التشريعات والتصويت والتقارير الموجبة قبيل تنفيذ أي قرار، مما يجعل قراراتها قوية بذات القدر الذي تبدو فيه هشَّة، وممكنة التغيير، إنها مدرسة الديمقراطية المُثلَى في العالم، وحتى يدخل العرب التاريخ المعاصر لا بد لهم من فَهْم تلك الآلية والعمل على التأثير والتفاعل معها في كل من أميركا وأوروبا، فطالما بقينا عاجزين عن فرض قوانين اللعبة كما نريدها، يتوجب علينا اللعب بقوانينهم حتى إشعار آخر، فالعيب ليس في الآخر، حيث إن الأمم تتحرك حسب مصالحها، حتى ولو كانت شعاراتها هي الدفاع عن حقوق الضعفاء ودعمهم، فالسياسة تقول إن: "لكل مبدأ حدّاً ينتهي عند بداية المصالح".. ولو كان للولايات المتحدة مصلحة في تنفيذ قرارات " كينج-كراين" لكانت سورية الكبرى دولةً واحدةً ضِمن فيدراليات متعددة.
إن الوعود الأميركية في تحقيق العدل وتقرير المصير، شأن غاية في النبل، ولكن يجب علينا كأمة عربية أن نَفِيَ بوعودنا لأنفسنا قبل مطالبة الآخر بذلك، والعمل على بناء الديمقراطية التي تتشكل في عقول شبابنا عَبْر الوعي بحمايتها في المحافل الدولية بشتى الوسائل، والبَدْء بتذكير الغرب بوعوده لنا كما هي، فازدهارنا لا يعتمد على مقدار شفقة الآخر وتعاطُفه معنا فقط، بل بمقدار قدرتنا على إقناع الآخر أننا أبناء العصر بقِيَمه وفلسفته وعالميته المتصلة جغرافيّاً وأخلاقيّاً.