شهدت القارة الأوروبية حروباً وصراعات على مدى قرون عديدة تضمنت مختلف أنواع وأشكال تلك الصراعات، منها الحروب الدينية ومنها الحروب القومية، ومنها حروب بين الدول الإمبريالية الإمبراطورية على الأسواق والتجارة والموادّ الخام والموارد الطبيعية.
كان أعنف تلك الصراعات اندلاع حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين.. كانت شرارتهما من أوروبا وساحاتها الرئيسية في أوروبا وكانت نتيجة الحرب العالمية الأولى تفكيك الإمبراطوريات العريقة ونتائج الحرب العالمية الثانية دخول 18 دولة بها خرجت جميعها مدمَّرة باستثناء الولايات المتحدة (والتي لم تَدُر الحرب على أراضيها) كزعيمة للنظام الدولي حاول الاتحاد السوفييتي منازعتها على قطبيته.. نجح أحياناً بذلك وأخفق بأحيان كثيرة…
دفعت أوروبا عشرات ملايين الضحايا بنتيجة الحربين العالميتين.. وتم تدمير هائل للمدن والبنى التحتية بنتيجة الحرب العالمية الثانية التي أفضت بنتيجتها إلى أفول نجم الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية اللتين سادتا العالم.. وتم تخليهما عن مستعمراتهما ودورهما العالمي لمصلحة الولايات المتحدة تلك القوة الجديدة التي أنقذت العالم الحر من الهزيمة في الحربين الأخيرتين وتنازلهما لها عن قيادة النظام الدولي.
دخلت أوروبا الغربية تحت المظلة الأمنية الأمريكية عَبْر حلف شمال الأطلسي واستكانت أوروبا الشرقية إلى المظلة السوفييتية عبر حلف وارسو فيما تم تقسيم ألمانيا (والتي تسببت بالحربين) إلى جزء تحت المظلة السوفييتية وجزء تحت المظلة الأمريكية.
عالج الأمريكان نتائج الحرب في الدول التي تم هزيمتها في أوروبا بمحاولة تلافي أخطاء نهاية الحرب الأولى مثل وضع شروط قاسية على ألمانيا بل بإطلاق مشروع مارشال للتنمية الاقتصادية والنهوض بالمجتمعات المدمرة بدل تركها فريسة أو مستنقع لنمو الدعوات الانتقامية والنزعات القومية العنصرية.. لكن بشرط حجب بناء قوة عسكرية ألمانية بل دفعها للازدهار الاقتصادي…
كانت الرغبة الأوروبية والأمريكية أيضا إيجاد صيغة أوروبية تحول دون حصول صراع قادم بين القوميات المتعددة (والتي يحفل تاريخها بالصراعات الدموية) عبر بناء آلية تمنع الحروب القادمة وقد هداهم التفكير إلى البناء المتين من القاعدة وصولاً للقمة بمعنى خلق مصالح أو منافع مادية بين الشعوب والبناء عليه درجة درجة إلى القمة وليس الاتحاد من الأعلى بين الحكومات ومحاولة النزول به إلى الأسفل (وهي خطوة أثبتت التجارب الواقعية فشلها)
نشأة الاتحاد الأوروبي
حيث تداعت في عام 1951 ست دول أوروبية هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا.. حيث غرست بذرة التأسيس عبر تشكيل المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ. وبعد ذلك في عام 1958 باتت تعرف باسم المجموعة الاقتصادية المشتركة إلى أن تم تغيير اسمها إلى الاسم الحالي الاتحاد الأوروبي في عام 1993..
وانضمت مع مرور الوقت 22 دولة إلى التشكيل الأولي وأصبح عددها 28 دولة.. لكن مع بداية شهر شباط 2020 انسحبت المملكة المتحدة منه ليصبح العدد الحالي للدول الأعضاء 27 دولة..
ويُعرِّف الاتحاد الأوروبي نفسه على أنه تحالف سياسي واقتصادي يهدف بشكل رئيسي لإدارة سوق مالي اقتصادي ذي عملة واحدة إضافة إلى وضع سياسات مشتركة على مختلف الأصعدة مما يتيح تحرك السلع والبضائع والأموال والخدمات والأشخاص بكل سهولة بين الدول الأعضاء.
بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار حلف وارسو وتوحيد ألمانيا وانضمام كثير من دول أوروبا الشرقية له. وزوال الخطر السوفييتي وبزواله ظن الأوربيون أنه زال أي خطر لاندلاع حرب أوروبية أو على الأرض الأوروبية.. تم استيعاب الدول الشيوعية السابقة وإصلاح ما خربه النظام الشيوعي بمجتمعاتها واقتصاداتها وتم تعميم شكل نظام الحكم الديمقراطي الليبرالي ضمن خطوات ناجحة.. ولم يشعر الأوروبيون بأي خطر حقيقي إثر اندلاع الصراعات والحروب الأهلية بالبلقان التي رافقت الانهيار اليوغسلافي.. ولم يعتبروها حرباً وجودية بل نزاعاً مأساوياً تعاونوا مع الولايات المتحدة على تدارُك تداعياته ومعالجة آثاره.
الغزو الروسي لأوكرانيا أيقظ الاتحاد الأوروبي من أحلامه الوردية
حقق الاتحاد الأوروبي رفاهاً لشعوبه عبر تبوئه لمراكز متقدمة بعد الولايات المتحدة وقبل أو بعد الصين.. وبرز كقوة اقتصادية عالمية هائلة ذات دور سياسي محدود على الصعيد الدولي بدون أي أنياب ومخالب عسكرية حيث اعتبر نفسه كجناح سياسي للناتو واستكان إلى الحماية العسكرية الأمريكية في ظل حلف الناتو.
تخلَّف الاتحاد الأوروبي كثيراً عن السباق الجيوسياسي مع روسيا البوتينية خاصة في دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن حلف وارسو.. وكانت الدعوات التي تخرج بين الفينة والأخرى تحض الاتحاد الأوروبي على بناء قوة عسكرية للتدخل السريع خاصة به ولو بقوام 50 ألف جندي. لم تلاقِ أي صدى عملي. وبرز الاتحاد الأوروبي كقوة أخلاقية حضارية ومانح للمساعدات
الإنسانية ويتصدى لها إلى جانب دول أخرى..
كان خروج المملكة المتحدة من عضويته واتجاهها إلى المحيط الهادي بتحالف مع الولايات المتحدة وأستراليا بوجه الصين. ضربة قوية للاتحاد الذي وجد نفسه وحيداً في ظل تراجُع الدور الأمريكي بالاهتمام بالحلف والذي جسدته ولاية الرئيس دونالد ترامب. حتى وصف الرئيس الفرنسي الحلف بالميت سريرياً بمعنى أنه لا قوة حقيقية تدافع عن أوروبا.
ولم تتأخر أوروبا عن السباق الجيوسياسي مع الروس فقط بل تجاوز ذلك إلى تخلفها عن مجاراة الصين ببناء قوة عسكرية موحدة أو مشروع عالمي كمبادرة الحزام والطريق والتي تعتبر الاتحاد الأوروبي سوقاً لتصريف منتجاتها أو طريقاً للوصول لشواطئ الأطلسي.
تأخر الاتحاد الأوروبي عن السباق الجيوسياسي مع دول إقليمية مجاورة له كالصعود التركي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا..وانتشار الفوضى التي حملها المشروع الإيراني من شواطئ المتوسط إلى الخليج العربي والبحر الأحمر..
كل ذلك كان يتم تحت أعين الاتحاد الأوروبي وفي فنائه الخلفي سواء كان البحر الأبيض المتوسط (والذي لا يعتبر أكثر من بحيرة قياساً لغيره) التي تتشاطأ معه أو مع الاتحاد الروسي في الشرق.
والأخطر من ذلك استسلام القارة الأوروبية في مصدر طاقتها للعدو الروسي التقليدي والتاريخي والذي حاول ببناء ومد شبكات عنكبوتية من خطوط الغاز والنفط للإمساك برقبة الاقتصاد الأوروبي الذي أصبح رهيناً للطاقة الروسية والتي تأكدوا مؤخراً أن الرئيس بوتين يستعملها كسلاح سياسي.
أسباب اهتمام الاتحاد الأوروبي بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا
يوجد ثلاثة أسباب مهمة تجاهلها الاتحاد الأوربي أو لم يولها العناية الكافية سابقاً. وأظنه لم يعد يكتفِ بدور إعادة إعمار ما دمرته صراعات الآخرين بحدائقه الخلفية (والآخرون هم الأمريكان والروس والأتراك والإيرانيون والإسرائيليون).
1- يشكل الشرق الأوسط مركز تزويد آمِن وقريب للطاقة ويحقق لها خطتها التي أعلنتها مؤخراً بالاستغناء عن الطاقة الروسية كخطة أمن قومي وليس لأبعاد اقتصادية .
2- عانى الاتحاد الأوروبي من مشاكل تدفق اللاجئين من مناطق الصراع الملتهبة في الشرق الأوسط وإفريقيا وسيعاني أكثر إن استمر بسياساته السابقة ويتوجب عليه الاهتمام بمعالجة أسباب المشكلة وليس نتائجها. خاصة الهجرات المتوقعة للشمال بعد تغير العوامل المناخية بجنوب القارة وانتشار الجفاف والتصحر.
3- يصدر الجوار الأوروبي له مشكلات الإرهاب والتطرف والتي عانت دول الاتحاد منها كثيراً ولن تنفع معها الحلول الأمنية الداخلية أو الاشتراك مع الولايات المتحدة بدور شكلي لمحاربتها، إنما ينبغي لها التدخل في حل الأزمات التي تؤدي لذلك وبالتالي تجفيف منابعه. كدعم الأنظمة الديمقراطية الوليدة أو تشجيع عمليات التحول الديمقراطي وعدم غض النظر عن الاستبداد المنتشر بالمنطقة والذي هو السبب الرئيسي لظاهرة اللاجئين والإرهاب.
إن العودة الأوروبية إلى المنطقة أو أوروبا المنطقة والمحافظة على استقرارها ومساعدة دول المنطقة على محاربة المشروع الإيراني وأذرعه كمزعزع رئيسي للأمن الإقليمي يساعد الاتحاد الأوروبي على تأمين وسلامة خطوط الطاقة التي تمده بأسباب الحياة وتمنع عنه شر وشرور اللاجئين والإرهاب.