نعم، نريد إصلاحاً للخطاب الديني، وتجديداً لفهمنا للنصوص المقدسة، ولا بأس من أن يمتد إلى مراجعات فقهية عميقة، وإلى امتحان بعض المُسَلَّمات التي توارثها المسلمون دون تدقيق كافٍ في أصولها وفي فَهْمها، وفي مدى صلاحيتها لتحقيق المقاصد العُليا للأمة.
لكن ما يحدث أحياناً هو أن يطالب بعض العلمانيين المتطرفين، أو الحداثيين المنادين بتجديد الخطاب الديني، إلى اقتلاع جذور الإسلام، تحت ذريعة الحاجة إلى الإصلاح الديني أو الحداثة والقطيعة المطلقة مع الماضي، وقد وصل الأمر في بعض الدعوات إلى التحريض ضد الإسلام، والاستهانة بعقائد المسلمين عامة وشعائرهم، فأخفق هؤلاء الدعاة، ولم ينجحوا في شيء سوى أنهم شجعوا بعض المسلمين المتشددين على أن يتحولوا إلى متطرفين.
أذكر لقائي الأول مع الشاعر السوري الشهير (أدونيس) أوائل السبعينيات، يوم التقيت به مصادفة في شارع "الصالحية" في دمشق، وكنت سعيداً أن أتعرف إلى هذا الشاعر الذي أثار إشكاليات كبيرة فور صدور كتابه (الثابت والمتحول) تناولنا غداء في نادي الضباط (وكنت يومها أؤدي الخدمة العسكرية) وبدأت أطرح أسئلتي الحارّة عليه، ولا أنكر أنني كنت يومذاك أتطلع شخصياً إلى موقف فكري يتصالح مع معطيات العصر، دون أن يفقد هُوِيَّته، ولا أنكر كذلك أنني كنت منبهراً بسعة ثقافة أدونيس، وبجرأته على اختراق المحميات الفكرية المُتوارَثة، وحين سألته عن وسيلة خروج الأمة مما هي فيه من انهيار على الرغم من ادعاءات الانتصار، قال (المخرج الوحيد هو الإلحاد) كانت إجابته صادمة لي؛ فأنا أبحث عن إحياء أمة وليس عن هدمها وإبادتها.
كانت الصدمة السابقة يوم حضرت مسرحية (حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران) عام 1969، وهي من تأليف سعد الله ونوس وإخراج علاء كوكش، وقد نالت هذه المسرحية شهرة واسعة، وكانت المفاجأة الصادمة لي شخصياً، أن المسرحية كشفت المسبب الحقيقي لهزيمة حزيران، وهو ما لم يكن يخطر في بال أحد، إنه إمام الجامع في القرية، ومع أنني لا أقلل من مكانة سعد الله المسرحية، إلا أنني أعجب من تبرئته للحكام والقادة السياسيين والعسكريين وإلقاء الوزر على شيخ الجامع الذي عوَّدتنا السينما العربية على إظهاره غالباً بشكل هزلي مضحك.
كنت في أوائل العشرينيات من العمر، ولا أستبعد أن يكون موقفي نتاج كوني من أسرة مسلمة، ووالدي من علماء المسلمين في إدلب، وكنت على صلة بهؤلاء العلماء، وأسمع أحاديثهم في بيتنا وفي بيوتهم، وأعرف أنهم مضطهدون من قِبل الطفولة اليسارية التي صعدت إلى الحكم بعد انقلاب الثامن من آذار عام 1963، ولكن المسلمين في إدلب كانوا مسالمين ومنفتحين على العصر ضِمن ما لا يرونه مخالفاً لثوابت دينهم، وهم مفعمون بحب وطنهم وعروبتهم، وملتزمون بإسلامهم، وليست لديهم أية تفرقة بين الناس عِرْقياً أو مذهبياً أو طائفياً، والمسيحيون في إدلب أبناؤها الأصلاء، هم أهلنا وجيراننا في الأحياء، والطريف أن كثيراً من أطفال المسلمين كانوا يدرسون في مدرسة الكنيسة كما أن أطفال المسيحيين يدرسون مع المسلمين وتكبر الصلات والعلاقات الأخوية بين الأطفال جميعاً دون سؤال عن دين هذا ودين ذاك، فأما الصلة بين أهل السُّنّة (وهم الأغلبية في إدلب) وبين أهل المناطق المحيطة من دروز وشيعة وعلويين، فهي صلة وطيدة ومتينة ولم يكن أحد يهتم بتلك الفوارق المذهبية أو الدينية، وحسبي أن أذكر أن أبرز محافظ أحبه أهل إدلب وأحبهم، وصار كل منهم يعتز بصداقته، هو شاب علوي، وجد الناسُ فيه من التهذيب واللطف والحكمة والمودة ما جعلهم يحملون سيارته على أكتافهم يوم زار إدلب بعد أن انتقل من محافظ إدلب إلى وزير للزراعة، وهو الصديق الكبير الأستاذ جميل حداد.
القضية إذن ليست في الانتماء الديني أو المذهبي أو العِرْقي، وإنما هي في الخُلُق الكريم والتعامل الحسن ورحابة الصدر للناس واحترامهم، والعدل فيما بينهم.
ذات يوم سألني أكبر المسؤولين في سورية (برأيك، ما سر انتشار الحجاب بهذا الشكل الكبير في سورية؟) قلت: (يا سيدي، إن الفضل في انتشار الحجاب حالياً هو للدكتور رفعت الأسد، فبعد أن أمر بنزع الحجاب عن رؤوس النساء المسلمات بالقوة ومنع الحجاب في المدارس، أفاقت غالبية نساء سورية في اليوم التالي محجبات).
لقد ساقني الحديث إلى هذه الذكريات لقناعتي بأن ما حدث من شرخ مفجع في البِنْية الاجتماعية السورية هو هذا الطغيان الذي بدأ فكرياً وتصاعد عسكرياً، والمفارقة أنه تخفّى وراء دعوات الإصلاح والحداثة.
لقد أسرف الحداثيون حين افتقدوا السياسة والكياسة وفَهْم الآخر واحترامه في طرح أفكارهم التي جاءت صادمة تستفز عقائد الناس وتستعلي عليهم وتتجاهل عُمْق هُوِيَّتهم، وتجهل مدى تمسُّكهم بها، وكلنا نذكر المقال الشهير الذي كتبه الضابط إبراهيم خلاص في مجلة "جيش الشعب" عام 1967 قبيل هزيمة حزيران، وقال فيه: (إن الطريقة الوحيدة لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الإنسان
العربي الاشتراكي الجديد الذي يؤمن بأن الله والأديان والإقطاع وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متحف التاريخ، ولسنا بحاجة لإنسان يصلي ويركع خاشعاً ذليلاً، يطلب الرحمة والغفران لنفسه، لأن خلاصة الصلاة كما قال -بروست- هي يا الله أعرني اهتمامك.
كم يبدو جاهلاً وسخيفاً هذا الكاتب الذي لا يعرف مجتمعه وقيمه وعقائده وتاريخه، وكم سيسخر من نفسه لو أنه أعاد اليوم قراءة ما كتب وهو يسأل عن أحوال الإنسان الاشتراكي الجديد الذي أراد خلقه قبل خمسة وخمسين عاماً!!
لقد فجر هذا المقال غضباً شعبياً عارماً في سورية، وأثار مظاهرات استنكارية حاشدة في دمشق وحلب وبقية المحافظات، واضطرت السلطة لإخمادها بإصدار بيان يعتبر الكاتب ورئيس تحرير المجلة مدسوسيْنِ دفعتهما مخابرات أمريكا وإسرائيل لإحداث فتنة، وحُكم عليهما بالسجن والأشغال الشاقة.
وأعتقد أن هذه الحادثة كانت درساً للسلطة أفادت منه في ضرورة التوجه إلى التصالح مع المؤسسة الدينية، وقد حرصت السلطة على الإبقاء على هذا التصالح مع رموز المؤسسة حتى حين وقعت أحداث حماة الفجائعية الشهيرة في الثمانينيات.
وأذكر أنني حضرت محاضرة ألقاها نصر حامد أبو زيد في مكتبة الأسد في دمشق، وقد احتشد الشباب وقوفاً حين ضاقت بهم المكتبة، وأذكر أن من قدم المُحاضِر وأدار الحوار هو الدكتور صادق جلال العظم، وقد قدمت مداخلة خالفت فيها رؤية الدكتور حامد بتاريخية النص القرآني، ولست أنكر أن في النصوص المقدسة أحكاماً تاريخية، لكن دلالاتها تبقى حية في القياس والمعايير، وهو الذي طالب بإهمال المعنى والأخذ بالمغزى مع التمرد على سلطة النص، ومع إشادتي باجتهاده الفكري وإصراره على تقديم نفسه مفكراً إسلامياً إلا أنني انتقدت كونه ينظر إلى الإسلام بعيون غربية وماركسية مقدِّماً النظرية المادية الجدلية، ومع أنه لم يأتِ بجديد حين اعترف بأهمية المغزى (وهو ما حرص عليه كبار فقهاء المسلمين) ، كما أنه لم ينكر الوحي لكنه أفقده سلطته ومضمونه كما فعل أمثاله من دُعاة التجديد في الخطاب الديني، وهذا ما يجعل المؤمنين يرتابون في دعوى الإصلاح المنشود، وللحديث صلة.