من الواضح أن تغيراً جذرياً سيحدث في بنية النظام الدولي المستجد بعد أن قامت روسيا بغزو أوكرانيا متحدية العالم كله، وبخاصة قارة أوروبا والولايات المتحدة، وفارضة نفسها قطباً ثانياً عَبْر القوة التي وصل التهديد بها إلى حد استنفار قوى الردع النووي، ولم يكتم الرئيس بوتين أهدافه البعيدة حين تحدث بصراحة عن مشروعه الإمبراطوري لاستعادة أراضي روسيا القيصرية وليس فقط دول الاتحاد السوفياتي الشيوعي الذي انهار مطلع التسعينيات من القرن الماضي بل إنه أدان مؤسسي الاتحاد السوفياتي الذين اعتبرهم يهوداً خونة رغم نظرياتهم الماركسية المادية اللادينية مستعيداً حضور المسيحية الأرثوذكسية القيصرية، وحمّل لينين وستالين مسؤولية السماح لدول الاتحاد بالاستقلال وبتقرير المصير، متطلعاً لما سماه حلفاءه تصحيح التاريخ وإعادة ضم دول مستقلة إلى إمبراطورية روسيا القيصرية، وهي دول عديدة في آسيا الصغرى، وأجزاء من المناطق الشمالية والشرقية من تركيا، وقد بدأ التنفيذ عَبْر هجومه العسكري المدمر لأوكرانيا التي أنكر وجودها التاريخي ونسف خصوصية ثقافة شعبها ولغته، وفي حال تحقق له النصر وتمكن من ضم أوكرانيا إلى روسيا فقد فتح الطرق أمام طموحاته لاحتلال بلدان أخرى، ولن تكون دول أوروبا بعيدة عن مرماه الذي سيكون قريباً بهذه الحال.
ومع تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، وتصاعُد الغزو الثقافي للدول العربية والإسلامية واختراق العقائد والثوابت الدينية بهدف التشكيك بالإسلام وإعادة صياغة مفاهيمه وأركانه بما يفقده خصوصياته لإحلال إسلام بديل بذريعة محاكاة العصر وقوانينه المستجدة، فإن التغير الراهن في بنية النظام الدولي قد يجعل الغرب مضطراً لاستعادة استخدام الإسلام مرة أخرى في مواجهة روسيا كما فعل سابقاً في استخدام الإسلام لمحاربة الاتحاد السوفياتي وهزيمته في أفغانستان.
لقد حث الغرب وبخاصة الولايات المتحدة كل الدول الإسلامية لإيقاظ مفهوم الجهاد عند الشباب المسلمين الذين أخذت بعضَهم الحماسةُ الدينيةُ لدخول ساحات الجهاد ضد أعداء الدين الذين احتلوا أفغانستان، ووجدها بعضهم فرصة عمل وارتزاق إلى جانب إرضاء الضمير في محاربة المعتدين، وبرزت ظاهرة (الأفغان العرب) التي انخرط فيها عشرات الآلاف من الشبان ملبين نداء الجهاد الذي أطلقه الأمريكان، وسرعان ما أسس القادة (قاعدة معلومات).
ومن المفارقة أن تصبح هذه (القاعدة) اسماً وعنواناً لتلك الحركة التي لقيت دعماً ضخماً لمحاربة الاتحاد السوفياتي وإلحاق الهزيمة به، وهي التي كانت السبب المباشر لسقوطه وانهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط جدار برلين وانهيار المد الشيوعي الدولي وخروجه من التاريخ المعاصر، ولا أحد ينكر دور المجاهدين العرب في تحقيق هذا الهدف الذي تابعت حركة طالبان جهادها فيه إلى أن انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان وسلمت الحكم لطالبان.
فأما الشبان العرب الذين كانوا قاعدة صلبة ومتينة قائمة على أفكار متشددة ومتطرفة تقسم العالم إلى دار كفر ودار إيمان، غير معترفين بالتشكل الراهن للعلاقات والاتفاقيات الدبلوماسية الدولية فقد أهملهم مشغلوهم مع انتهاء دورهم، فانتشروا في الدول العربية ثم بدؤوا انتشاراً في دول شتى في العالم، ولم تكن لهم خبرة في صناعة الحياة، فقد أمضوا زهو شبابهم في صناعة الموت، وتحولوا إلى إرهابيين مُلاحَقين ومطارَدين ومتهَمين مع بقاء مجموعات منهم في جاهزية كامنة قيد الحاجة حتى وهم في السجون, وقد تمت الاستعانة بهم في العراق لمنح المقاومة العراقية بعداً سُنياً أمام الزحف الشيعي، ثم كبرت الاستعانة بهم في سورية للقضاء على الثورة الشعبية السورية، ولتحويل بوصلتها عن هدفها المعلن في بناء دولة مدنية ديمقراطية بدل الدولة العسكرية الأمنية وبدل الاستبداد والديكتاتورية عبر إقامة حكم مدني غير طائفي، وكان هدف ظهور التنظيمات الدينية المتطرفة مثل “داعش” و”النصرة” ومثيلاتهما، إعلان دولة أو إمارات إسلامية تعلن تطبيق الشريعة الإسلامية، وسرعان ما امتد تنظيم “داعش” إلى دول أخرى خارج سورية والعراق لإشعار العالم المتعاطف مع الشعب السوري وثوريته، بأن ما يحدث في سورية هو مجرد حركات إرهابية تقاوم حكماً شرعياً. وللأسف نجح مشغلو “داعش” في التعمية على أهداف الثورة السورية وتمكنوا من التمويه على الرأي العام العالمي عبر ضخ إعلامي مبرمج، وكان من المفارقات أن تشارك دول عدة في دعم تنظيم “داعش” وفي تمويله، رغم كونها تعلن ظاهرياً دعمها للشعب السوري وتضع نفسها بين أصدقاء سورية بينما يتدفق منها آلاف المقاتلين الأجانب للانخراط في صفوف “داعش” وكثير منهم ليسوا مسلمين أصلاً، وقد فُضِح الأمر حين سقط تنظيم “داعش” في سورية وجاءت بعض الدول لاستلام رعاياها وبعض الدول رفضت الاستلام، بعد أن نفذ “داعش” المهمة في سحق الجيش السوري الحر، وبعد أن قام تنظيم “داعش” بتشويه صورة الإسلام والمسلمين بخاصة بعد أن اعتدى على المسيحيين والإيزيديين وقام بعمليات إجرامية مريعة وقطع الرؤوس، في عمليات إرهابية إعلامية مصورة تلفزيونياً بحرفية عالية، وكان الخليفة البغدادي المزعوم أعلن في خطبة الخلافة أنه سيُنصَر بالرعب وسيُخضع الناسَ لدولته بالسيف، وتجاهل العالم أن جل جرائم هذه التنظيمات المتطرفة كانت ضد أهل السُّنة وقد استخدم تنظيم “داعش” للعدوان على الدروز في ريف السويداء السورية أيضاً، وما تزال بعض فلوله كامنة وجاهزة لتنفيذ الجرائم عند الحاجة.
ونحن نذكر اتهام ترامب المدوي لهيلاري كلينتون في حملته الانتخابية بأنها هي وأوباما مسؤولان عن تأسيس “داعش”، ولست هنا في مجال تقديم الأدلة فقد بات معروفاً عالمياً أن أوباما دعم النظام السوري بقوة وهو مع قادة دول أخرى منح بوتين التفويض المطلق بدخول سورية والدفاع عن النظام السوري، وفي أحد لقاءاتنا الدولية كنت مع الأخ الدكتور رياض حجاب في لقاء سياسي مع مجموعة من وزراء الخارجية في الدول العظمى في باريس، ضمن وفد من هيئة المفاوضات السورية العليا، بحضور وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جون كيري يومها تحدث الدكتور حجاب وواجه كيري بقوة الحجة محملاً الولايات المتحدة مسؤولية كبرى عن المعاناة السورية، وقد توقعت أن ينفي كيري هذه المسؤولية، لكنه أمام جمع من وزراء الخارجية في العالم قدم اعتذاراً عن موقف بلاده، وقال: إنه كان ينفذ تعليمات الرئيس الأمريكي أوباما، وقبل أيام قال رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دوفيلبان: لقد تعرضنا لضغوط من أمريكا في عهد أوباما لإطلاق يد روسيا بتنفيذ هجمات جوية في سورية، ولم يكن موقف أوباما الداعم لإيران خفياً على أحد، فقد سلمها العراق وسمح لها بالتدخل العسكري ضد الشعب السوري، ولم يكن اتهام ترامب له ولوزيرة خارجيته هيلاري عبثاً في حملة انتخابية، ولم يصدر رد من المتهمين, فجلُّ المسؤولين الأمريكان يعرفون مَن أسس “داعش” ومَن يقف إلى اليوم داعماً للنصرة وسواها من التنظيمات الدينية، والخطر الراهن أن يستعيد الغرب استخدامه لتنظيمات إسلامية متطرفة ترفع رايات الجهاد من جديد ثم يُلقِي بهؤلاء الشباب المُضيَّعين إلى الجحيم.
وعلى الرغم من تعاطُفي الشديد مع الشعب الأوكراني وحقه في استقلاله وحريته وفي الحفاظ على خصوصياته الثقافية واللغوية، وتعاطُفي مع مظلوميته واستنكاري لتهديم مدنه وتشريد شعبه، وإحساسي بقسوة ما يتعرض له من وحشية عرفناها نحن السوريين وخبرناها منذ أن دخل الجيش الروسي بلادنا وحامت طائراته وصواريخه في سمائنا وقصفت مدارسنا ومشافينا وأسواقنا الشعبية، وجربت أحدث أسلحتها في هدم وتدمير قُرانا ومدننا وشردت أهلنا وأبادت أوابد من حضارتنا، وقتلت رجالنا وشبابنا ونساءنا وأطفالنا، إلا أنني أدرك خطورة استخدام الدين على الضفتين، وحَسْبُنا توريط المسلمين الشيشان في حرب لا شأن لهم فيها سوى إرضاء بوتين ضد الشعب الأوكراني الصامد والمقاوم والمدافع عن أرضه وحريته وكرامته، والجميع يعلمون ضراوة المقاومة الشيشانية قبل الدمار والانهيار الذي اضطر الشيشان للرضوخ لإرادة بوتين، وهو ما نخشى أن يحدث عند الأوكرانيين، وهو ما سيفتح شهية بوتين لاحتلال بلدان أخرى وضمها إلى إمبراطوريته القيصرية التي يطمح لاستعادتها.
لقد كتبتُ قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا داعياً العرب جميعاً إلى اتخاذ استجابة موحدة، وعدم الانخراط في حرب عالمية لا شأن لهم بها مُحذِّراً من أن تنتقل تداعيات توسع ساحات الحرب المتوقعة إلى البلاد العربية، واليوم أُحذِّر من خطر استعادة زجّ الأديان في ساحات الحروب، وقد أدهشني تعلُّق بوتين بالأرثوذكسية وإطلاق المسيحية من عقالها وهي التي سجنتها روسيا عقوداً حتى داخل الكنائس، ولكن بوتين أيقظها حين بارك كبار رجال الدين المسيحي الأرثوذكس هجوم روسيا على الشعب السوري، مع أن مقر المسيحية الأرثوذكسية ومهدها التاريخي الأول كان في سورية الكبرى ومنها انطلقت إلى العالم.
لقد أوقع الغرب نفسه في الفخ الروسي حين سمح لبوتين أن يحتل سورية عسكرياً وفوضه بالقتل والتدمير كما يشاء، واكتفى الغرب لإرضاء بقايا الضمير بتقديم الإغاثة وصار الملف السوري إنسانيَّ البُعدِ وباتت القضية السورية قضية معابر فقط، بينما غض الغرب كله الطرف عن خطر تموضع روسيا على شواطئ المتوسط التي يسهل منها إطلاق الصواريخ المدمرة على أوروبا المُقابِلة وحصار تركيا من جنوبها، وقبل بَدْء الهجوم الروسي على أوكرانيا قامت روسيا بتحديث أسلحتها في قاعدة “حميميم: المحتلة من قِبل روسيا وجهزتها بأسلحة الردع وبالصواريخ البالستية وبأحدث الأسلحة وأخطرها، وهي بالتأكيد تفوق حاجة روسيا في حربها ضد السوريين الذين باتوا عزلاً ولا يملكون مضادات للطيران الذي ما يزال يقصف بلدهم ويقتل أهلهم، فهذه الأسلحة الحديثة في الساحل السوري موجهة إلى الغرب وإلى حوض المتوسط، وهو رئة أوروبا وطريقها التاريخي إلى العالم، وها هو الغرب يدفع اليوم ثمن إهماله للقضية السورية، وثمن سماحه لروسيا أن تضم سورية إلى إمبراطوريتها القيصرية قبل أن تضم أوكرانيا وما حولها، والهدف الأبعد هو إضعاف أوروبا والانتقام التاريخي منها، وإخضاعها للقيصر الجديد، فهل سيبقى الغرب كله مهملاً للقضية السورية مكتفياً بإسكات الضمير بإيواء مَن لديه من اللاجئين وبتقديم إغاثة للمشردين وللمهجَّرين قسراً من بلادهم؟