أثارني ما سمعت في بعض الندوات التي تناقش قضايا إسلامية، وما أقرأ أحياناً من مقالات ودراسات يكتبها بعض دعاة التنوير كما يسمون أنفسهم، ومنها قولهم (إن البخاريَّ ومسلماً مسؤولان عن التدهور في العالم الإسلامي) ولا أدري إنْ كان هؤلاء يعفون الخلفاء غير الراشدين من العصر العباسي إلى اليوم ومن مثلهم من الملوك والقادة والأمراء من تحمُّل المسؤولية عما وقعت فيه الأمة من مصائب وفواجع وانهيارات ويتجاهلون الصراعات الدموية على السلطة والحكم، ثم الغزوات الأجنبية التي تعرضت لها الأمة الإسلامية، ومن أخطرها الغَزْوَان المغولي والصليبي، فضلاً عما فعلت قوى الاحتلال الغربي بالأمة منذ غزو نابليون لمصر والشام إلى الاحتلالات المعاصِرة للعالم الإسلامي كله.
لا أدري ما مسؤولية البخاري ومسلم عن انهيار الأمة التي وقفت ضد كل هذه الغزوات والحروب التي أوقعها فيها أعداؤها، وقدمت الأمة لدفعها من التضحيات ما يشهد به التاريخ؟
ويتجاهل هؤلاء التَّنْوِيرِيُّون أن القرن الثالث الهجري الذي عاش فيه الشيخان كان بداية الذروة التي صعدت إليها الأمة في تأسيس حضارة عربية إسلامية علمية شملت العالم القديم كله، مع وجود صحيحَيْ مسلم والبخاري، دون أن يمنع وجودهما الأمة من تأسيس مدارس فكرية وفلسفية بدأها المعتزلة قبلهما حتى ظهر فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي وهو الذي عاصر البخاري ومسلماً ولم يمنعه كتاباهما الصحيحان من أن يكون أول المشّائين العرب المسلمين.
لقد ظهر في الأمة الإسلامية مئات المعتزليين والمفكرين والمتفلسفين وشُيّد في بغداد (بيت الحكمة) في القرن الثاني للهجرة، وفيه نخبة علمية وفكرية ذات مكانة عالية في الحضارة الإنسانية كلها دون أن يمنع الصحيحان ظهور هؤلاء الفلاسفة والعلماء الكبار المؤسسين في الثقافة الإسلامية، ولم يمنع هؤلاء المبدعون ما يعمل عليه البخاري ومسلم وتلاميذهما في تدوين الحديث النبوي ولم يمنعوا الفقهاء الكبار من تأسيس المذاهب الفقهية رغم ما كان يحدث من مناظرات.
أي ظلم ومجافاة للحقائق في اتهام البخاري ومسلم بجعلهما سبباً من أسباب انهيار الأمة الإسلامية وهما باحثان في علم الحديث النبوي يخطئان ويصيبان وهما غير معصوميْنِ بالطبع؟
لقد حكم أحد القانونيين المصريين على البخاري في حديث تلفازي تابعته بأنه مجرم، وكنت أحسب الرجل المتحدث قاضياً عادلاً ناضجاً، بل إنه اتهم في ندوة أخرى الإمام أبا حنيفة وذمه وشتمه، لمجرد أنه رأى لأبي حنيفة رأياً يخالف رأيه، وسمعت من متحدث بارع آخر ذمّاً لئيماً للإمام الشافعي، وهكذا يحاول هؤلاء التَّنْوِيريُّون تشكيك المسلمين بمرجعياتهم الدينية فضلاً عن تحقيرهم، ولست أنكر على أحد من التَّنْويريِّين أن ينبه الأمة إلى ما يراه خطأً في تراثنا الغزير، فهؤلاء الباحثون والفقهاء الكبار القدامى قدموا رؤيتهم واجتهدوا، فأصابوا في أمور وأخطؤوا في أمور، وهم مجتهدون، نعترض على ما نراه خطاً في قولهم، ولكننا نسرف كثيراً حين نحملهم مسؤوليات جساماً، فهم قدموا ما وصلوا إليه ضِمن رؤيتهم، ولم يجبروا أحداً بالعنف على اتباعهم، ولم يسدوا طريق البحث على الآخرين، فثمة فقهاء ومفكرون آخرون قدموا رؤاهم في عصرهم، حتى إن بعضهم خرجوا عن تعاليم الإسلام كلها، حيث ظهرت في الأمة فِرَق وشِيَع مختلفة العقائد والآراء دون أن يكون للبخاري أو لمسلم، ولا لأبي حنيفة أو الشافعي أو لمالك أو لابن حنبل وسواهم أية سلطة في منع ذلك.
لكن القضية كما تبدو لي في هذا الزخم الإعلامي الراهن ضد البخاري ومسلم دون أية مناسبة لهذا الاستهداف المبرمج والتهجم العنيف القاسي على البخاري ومسلم وعلى الصحيحين هي بوابة استهداف مكشوف لأهل السُّنة النبوية، وهؤلاء التَّنْويريّون الذين يملؤون شاشات التلفزة واليوتيوب لا يقتربون بحمد الله من عقائد الشيعة، فلم نسمع أو نقرأ لهم اعتراضاً على كتاب الكافي للشيخ الكليني وهو يحتوي على 16199 حديثاً، أو على كتاب تهذيب الأحكام للطوسي وهو يحتوي على 13905 أحاديث، وسواهما كثير، فالاعتراض منصبّ على كتب أهل السُّنة وحدهم دون بقية المذاهب الإسلامية، وبوصفهم تنويريين لا يهتمون بغير المسلمين، فليس عندهم أي انتقاد لكتب مسيحية أو يهودية أو بوذية أو ما شابهها، بل إنهم يطالبون باحترام كل الأديان، ولا يتجرؤون إلا على الإسلام وعلى أهل السُّنة تحديداً، والمفارقة أنهم يقدمون أنفسهم مسلمين، وكثير منهم ملحدون ولادينيون، بعضهم يعلنون إلحادهم وبعضهم يتبعون أسلوب التقية، وعلى صعيد شخصي لا شأن لي بمَن يؤمن أو مَن يلحد، فلهم حريتهم فيما يعتقدون.
والعجب أن أعداء البخاري ومسلم يتجاهلون أن الحركة الفكرية الإسلامية انطلقت قوية في أواسط القرن الهجري الأول، وقضية الغياب 183 سنة قبل ظهور البخاري ومسلم أكذوبة اخترعوها.
نحن نعلم أن عهد الخلفاء الراشدين حتى عهد عثمان رضي الله عنه كان مهتماً بتدوين القرآن الكريم، ونشره في البلاد التي دخلها الإسلام، وتلا ذلك صراع على السلطة بين علي ومعاوية، وسرعان ما أشاحت الحجاز عن هذا الصراع، ولكنها تفرغت بعد توثيق القرآن الكريم لتوثيق السُّنة النبوية، انطلاقاً من قول الله سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
ولأنني لستُ في نطاق بحث أكاديمي محض، فسأكتفي بالإشارات السريعة إلى أهمّ ما ينبغي أن يعرفه مَن يستهدفون أهل السُّنة بكلام غير لائق وفيهم من العلماء والفقهاء مئات بل آلاف من الأذكياء والعظماء الذين أَثْرَوْا حركة الفكر الإسلامي على مدى ألف وأربعمائة عام ونيّف.
لقد تجاهل هؤلاء المهاجمون المدّعون أن الاهتمام بجمع وتدقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بتفرغ كامل عند علماء من الصحابة ثم التابعين مع ظهور مدرستين في القرن الهجري الأول وبالتحديد عام 60 هجرية، حيث ظهرت مدرسة أهل الحديث في الحجاز. وكان من أهم أعلامها أبو بكر الصديق وعثمان وعلي قبل الخلافة، وفيها عائشة رضي الله عنها، وابن عباس وابن عُمر وزيد بن ثابت وأبو هريرة وكثيرون بقيت مَرْوِيّاتهم حية، وكان بينهم إمام أهل المدينة سعيد بن المسيب (الذي تُوفي سنة 94 هـ)، وفيما بعد ظهر في العراق أحمد بن حنبل، وسُمي إمام أهل السُّنة والجماعة.
وواكبت مدرسةَ أهل الحديث مدرسةُ أهل الرأي وكان منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وكانا أكثر الصحابة توسُّعاً في الرأي وتأثَّر بهما علقمة النخعي (تُوفي سنة 60 هـ أو 70 هـ) وهو أستاذ إبراهيم النخعي وخاله، وإبراهيم هو الذي تتلمذ عليه حماد بن أبي سليمان (تُوفي سنة 120 هـ) وهو شيخ أبي حنيفة.
ثم تطورت مدرسة الرأي حتى وصلت في آرائها إلى مرحلة المعتزلة، وظهرت بين المدارس خلافات معروفة.
لقد تحفَّظ أهل الرأي على أحاديث الآحاد، وعلى الأحاديث المرسلة، بينما نادى أهل الحديث (الأثر) بالتحقيق والتدقيق وأظهروا علم المستند وعلم الرجال. فأما دعاة السلف فقد قدموا القرآن والحديث على العقل، بينما تعامل أهل الرأي مع النصوص بعقلانية.
ثم ظهرت مدارس سُنية شهيرة منها الأشعرية (نسبة لأبي الحسن الأشعري وجده أبو موسى الأشعري، وكان معتزلياً ثم انضم إلى أهل السُّنة، ومدرسة الماتريدية (نسبة لأبي منصور الماتريدي وينتهي نسبه عند أبي يعقوب الأنصاري) وهي مدرسة حنفية. وكانت قد ظهرت عشرات المدارس الفكرية وظهر أصحاب السنن، الذين قاموا بعملية موسوعية تقوم على الجمع والتدقيق، وهم باحثون جامعون، وكانوا منصفين في التعريف بما قدموا وبعضهم سمى كتابه (الجامع) ولكن القواعد الأساسية التي استندوا إليها كانت معروفة منذ عهد الصحابة الكرام، وقد تفرغ لوضع هذه الأسس الأولية فقيهان شهيران هما عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وساهم في ذلك كثير من أبناء الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن هناك فراغ أبداً خلال 200 عام، ولكن التوسُّع جاء حقاً في عصر التدوين.
ومع أنني أحترم النقد وأدعو إلى إعادة التبصر والبحث والفحص لكنني أعجب من ألفاظ الشتم والسب والتحقير لرجال باحثين ومدونين لم يعرف عنهم كره للإسلام أو عداء لرسول الله، كي يفتروا عليه ويكذبوا أو يؤلفوا من عندهم كلاماً ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قد يخطئون في الحكم على درجة حديث موضوع أو ضعيف أو جيد أو حسن أو حسن بغيره، وربما قبلوا بعض الأحاديث التي نرتاب اليوم في صحتها.
صحيح أن هناك في عصرنا إرهابيين أو متطرفين استغلوا أحاديث رُويت في الصحيحين، وأخرجوها من سياقها الفكري الذي تفهمه الأمة إلى سياق لفظي راهن، فهذا يحدث عادة في أيام الفتن، وقد استغل الخوارج في عهد علي كرم الله وجهه، القرآن ذاته، حتى قال لهم: ما تقولون حقّ يُراد به باطل.
إنني أدعو إلى التعامل باحترام مع جهد البخاري ومسلم وسواهما من كبار الباحثين من قادة المؤسسين لتراثنا العظيم، وأطالب بأن يقود الأزهر الشريف، عملية مراجعة عصرية دقيقة لهذا النتاج الضخم في علم الحديث ورواياته بمشاركة واسعة من كليات الشريعة في العالم الإسلامي وثقاة من مشاهير علماء المسلمين المتخصصين في علم الحديث وعلم الرجال والأسانيد، ومع علماء متخصصين في القوانين والحقوق المعاصرة، وفي التاريخ الإسلامي، وفي اللغة والأدب العربي.
ولا أنكر أنني اتخذتُ رأياً من مطلع شبابي حين كنت أطلع في غير تخصُّص على كتب الحديث النبوي وأقرأ بعضها، فإذا ارتاب عقلي في صحة حديث ما، كنت أرجعه إلى القرآن الكريم، فإن وافقه قبلته، وإن لم يوافقه اعتبرته ضعيفاً أو موضوعاً، وبالطبع لا بُدّ من أن يقبل العقل السليم بمضمون الحديث (عدا الغيبيات التي لا تخضع لقوانين العقل وتفوق إدراكه، وإنما تخضع عند المؤمنين للتصديق بما جاء في القرآن الكريم).
وأدرك أن بعض الأحاديث فيها حكمة مقبولة وإن كان الحديث ضعيف السند، فلا بأس بالاستئناس بالحكمة، ما دامت تواكب ما يقبله العقل والقرآن.
لقد ظهر في مطلع القرن العشرين باحثون مجدِّدون تَنْوِيريُّون على رأسهم الإمام محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي وأمثالهما، وقَبِلَ الناسُ ما يدعونهم إليه لأنهم كانوا يدعون إلى التجديد والتحديث محافظين على القِيَم السامية، ويحترمون الآباء والمؤسسين.