يشعر المسلمون في العالم كله أنهم مُستهدَفون، وأن العالم الذي تخلص من الشيوعية (العدو الأحمر) يعمل منذ عقود للتخلص من الإسلام (العدو الأخضر)، وتبدو الدعوة إلى العلمانية وكأنها باتت بديلاً عن الدعوة إلى الإسلام، ولم تَعُدْ مجرد مُطالَبة بفصل الدين عن الدولة أو عن السلطة، فقد تطرف كثير من العلمانيين في تحريضهم ضد الإسلام جملةً وتفصيلاً، وصار الإمام البخاري (مثالاً) عدواً شخصياً لكثير ممن يُسمُّون أنفسهم تنويريين ومجددين وهم يشككون في صحيحَي البخاري ومسلم وفي الأحاديث المَرويَّة عن رسول الله، بل ينسفون شرعية السُّنَّة النبويَّة كلها، ويُثيرني حماسهم في دعوتهم وبحثهم الحثيث عن خطأ هنا أو رأي غير صائب هناك، وتفتح القنوات التلفزيونية لهم اِستوديوهاتها الفارهة وتُغدَق عليهم الأموال بهدف زعزعة عقائد المسلمين والتشكيك بمسلماتهم، وقد نجحوا في جذب شرائح كبيرة من المشاهدين الذين تأثروا بهذا التنوير لكنهم في الغالب لم ينسفوا صحيحَي البخاري ومسلم فحسب، وإنما نسفوا الإسلام كله وخرج بعضهم من الإيمان إلى الإلحاد.
ربما كان بعض دعاة التنوير من العلمانيين يندفعون إلى هذه الدعوات لمواجهة التطرف الديني الذي بات عبئاً على الإسلام حقاً، فقد ظهرت منذ عقود تنظيمات دينية تتهم المجتمع المسلم بالكفر، وبالغرق في الجاهلية، وتدعو إلى تطبيق حَرْفيّ للشريعة، وإلى بناء دولة دينية (كما فعلت إيران) وبعض التنظيمات المتطرفة دعت إلى إقامة دولة خلافة أو إمارة إسلامية، وقد فعلها تنظيم “داعش” الذي أدى مهمة تاريخية في التعمية على الثورة السورية وأهدافها المدنية، وبالغ في ارتكاب جرائم إرهابية لوَصْم الإسلام بسمة الإرهاب، وتقديم الذريعة لمن يقمعون ثورة الشعب، وقد بررت روسيا مثلاً تدخُّلها العسكري في سورية واحتلالها لها بكونها تحارب الإرهاب، وتشكل تحالفاً دولياً للقضاء على داعش فتم القضاء على الجيش السوري الحر، وأفردت الساحة برحابة لتنظيمات دينية طائفية تناصر النظام السوري مع أنها لا تختلف عن “داعش” في شيء، وإذا كان “داعش” قدم البغدادي خليفةً حياً تم قتله لاحقاً، فإن حزب الله يقدم شخصية تاريخية هي المهدي المنتظَر الذي تُوفي أواخر القرن الثالث الهجري، ويقولون إنه سيُبعث حياً آخِر الزمان، وينوب عنه إلى حين رجعته الوليّ الفقيه، وكِلا التنظيمين “داعش” و”حزب الله” سفكا دماء المسلمين والمسيحيين والمواطنين باسم الدين.
وهذه الهجمة التنويرية تتكئ أحياناً على ما هو إشكالي في روايات البخاري الذي بعثوه حياً في الحياة العربية مع أنه على مر قرون كان شِبه غائب عن الحياة السياسية، فلا تكاد تجده خارج المدارس الدينية أو حلقات الدعوة في المساجد أو كليات الشريعة وبين أيدي الدارسين والباحثين، وأكاد أجزم أن الغالبية من عامة المسلمين لم يقرؤوا الصحيحين، وكانوا يكتفون بالأحاديث الشهيرة التي تناقلتها الأجيال وأقرها عامة علماء المسلمين، معترفين بالمذاهب الإسلامية والفقهية، وغير مَعْنيِّين بالخلاف حتى مع مذاهب الشيعة فقد انطفأت نار الاختلاف منذ قرون، وبات المسلمون سُنة وشيعة أسرة مدنية واحدة تضم مختلف الفِرَق والتوجهات، ولم تَعُدِ النار إلى الاشتعال إلا حين طالب حزب الله بالثأر للحسين رضي الله عنه، وفَهِمَ أهل السُّنة في الشام أن الثأر سيكون منهم إذن، على اعتبار أنهم أحفاد بني أُمَيَّة، مع أنهم يخضعون منذ عقود لحزب البعث العلماني، ودولتهم ذات طابع طائفي واضح، ولم يسمح نظام الحكم في سورية ولو بإشارة لمكان قبر معاوية في دمشق.
وأَعْجَبُ من كون بعض العلمانيين المتطرفين يعيشون حياتهم في حالة توتُّر وخصومة عدوانية ضد الأحاديث النبوية، ويصل انتقادهم للبخاري مثلاً إلى حدّ توجيه الشتائم له واللعنات عليه، مع أن الرجل مجرد باحث أنفق حياته في جمع الروايات وبذل جهده في فحص أسانيدها ودقق في مروياتها، وجعلها درجات بين الصحيح والجيد والحسن، والحسن بغيره، وأشار إلى الضعيف والمنحول، ومن المشهور عنه والمشهود له أنه أول مَن وضع أصولاً للبحث العلمي في الاستقصاء والاستدلال، وقد وجد أمامه في عصره ستمائة ألف حديث يرويها الناس دون أسانيد صحيحة، فأخضع هذه الأحاديث لمنهجه في البحث ووجد الأصح بينها 7379 حديثاً فقط، وإذا أسقطنا من العدد ما هو قَيْد التكرار يبقى 2762 حديثاً فقط من أصل آلاف الأحاديث التي كانت تجري على ألسنة بعض الناس في القرن الثالث الهجري، وقد قام علماء الحديث بالجمع والتدوين ووضعوا علوماً خاصة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عِلْم الرجال، وعِلْم الجرح والتعديل وعِلْم مصطلح الحديث وعِلْم التراجم وعِلْم العِلَل، وسوى ذلك لضبط صحة الحديث، ولكن هذا لا يمنع من وقوع أخطاء في الأبحاث.
وعلى الرغم من كوني غير متخصص في علوم الدين إلا أنني أجد الحاجة ماسَّة لجهد علمي جديد يعيد النظر في جهود الأوائل، ويختار من الأحاديث الصحيحة.
ما ليس فيه شُبهة ضعف أو نَحْل، وربما يكون الأزهر الشريف خير مَن يقوم بهذا الجهد، فيقدم للناس ما يقطع الشك باليقين.
ولستُ مع تقديس أي كتاب إسلامي بعد القرآن الكريم، فهو الكتاب الخالد الذي لا ريب فيه، وأما ما جمعه الرجال فهو قابل للنقد والمراجعة، ولكن ظاهرة الحقد والذمّ والشتم واللعن على مَن قدموا جهدهم ورؤيتهم واجتهادهم مرفوضة علمياً وأخلاقياً، وقد زاد الأمرَ سوءاً تزييفُ الحقائق الثابتة، وتهويل الأمر في اتهام البخاري وأمثاله، مما يجعلنا نرتاب في مصداقية هؤلاء التنويريين النَّزِقِين الانفعاليين العصابيين الذين يظهرون على شاشات التلفزة وفي فيديوهات اليوتيوب يصرخون ويعربدون، وهم يتجاوزون الطعن في البخاري مثلاً إلى الطعن في السُّنة النبوية كلها، وقد دفعني إلى كتابة هذا الموضوع ما أُثير مؤخراً في مصر حول حقيقة المعراج، وكنت سمعتُ عن الخلاف حول هيئتها مذ كنت يافعاً، فالأمر ليس اكتشافاً عبقرياً جديداً، ولكن الخلاف لم يكن أكثر من مناظرات ومناقشات هادئة، ولم يكن أحد من المناظرين ينكر حدوث المعراج، فمَن آمنوا بوجود الله ومَن صدقوا محمداً في نبوته، ومَن صدقوا معجزات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام سيقبلون في إذعانهم لقدرة الله سبحانه ما خص به محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسراء والمعراج، ولن يُخضِعوا هذه المعجزات لأسئلة في المعقول وغير المعقول، ما داموا يؤمنون بالغيب وبما جاء به القرآن الكريم، فأما الملحدون واللادينيون فلهم دينهم ولنا دين، وقد وضعهم الإسلام أمام الخيار وهم أحرار، لكن ما حدث من هجمة إعلامية في إنكار المعراج مثير في توقيته وفي حرارته، ولستُ أعلم أن أحداً من المواطنين المسلمين في كل البلاد الإسلامية عكَّر عليه حياتَه الراهنةَ أو أساء إليه إيمانُه بالمعراج أو شَكُّه بصحته، وكذلك الطعن المستمر بالبخاري الذي سمَّاه أحدهم “مجرماً” في حديث متلفز، فمثل هذا التطرف العلماني يُشوِّه الحركة العلمانية التي نقبل دعوتها لفصل الدين عن السلطة كما شرحتُ موقفي في مقال سابق، لكن هذا التطرف يُذكِي تطرُّفاً في الجانب الآخر، مع أنه يحض عامة المسلمين على القبض على جمر عقائدهم ودينهم وقد باتوا يدركون أنهم مُستهدَفون.