المصدر: لوس أنجلوس تايمز
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: جهاد عبدو (الممثل السوري)
في موطني سوري، ظننت أن شهرتي ستحميني، ولكن بعد أن حظيت بالاهتمام لكوني أتحدث علانية ضد نظام الأسد الاستبدادي والذي يتّسم بالعنف، تحوّلت فجأة شهرتي إلى لعنة. وقد دفعني هذا لخوض غمار رحلة عقابية لم أكن لأختارها أبداً إلا أنها منحتني مكافآت غير مُتَوَقَّعة.
أدركت أن كل شيء كان على وشك أن يتغير عندما أمرني مدير أستوديو سينمائي سوري كبير بالظهور على شاشة التلفزيون والاعتذار عن شيء لم أكن لأجرؤ على قوله علناً. وقد استهلّت مقالة نُشِرت على الصفحة الأولى من صحيفة لوس أنجلوس تايمز في شهر آب/ أغسطس من عام 2011 القول بأنني قمت علانية باتهام “قوات الأمن السورية بالقيام بالتعذيب وبالفساد”.
وجاء ذلك قبل أن تكشف كاتبة المقال في فقرته الثالثة بأنها كانت في الواقع تقوم بنقل سطر من الحوار الذي كنت أنا ألعب فيه دور بطولة في مسلسل تلفزيوني عنوانه “الولادة من الخاصرة”. في الواقع لا يهم الحكومة إن كنت أنا المتحدث الفعلي أم هي كلمات من مقتضيات الحوار على لسان الشخصية الدرامية.
منذ اندلاع الانتفاضة السورية ضد الأسد قبل أشهر، حاولت المخابرات تجنيدي وتجنيد العديد من الشخصيات العامة الأخرى لآلة الدعاية الخاصة بهم. قاومت وتجنّبت التحدّث علانيةً ضد النظام. لكن المقال أوضح حقيقة واحدة وهي أنني لم أؤيد رئيس النظام السوري الخسيس بشار الأسد أو أي أحد من أتباعه.
لن يكون هناك اعتذار تلفزيوني مني، فأنا أدرك أن الحياة قصيرة.
بدأت المخابرات بتهديدي بصورة مُتكرّرة، وهو الأمر الذي جعلني في حالة كبيرة من الهلع. كنت أعرف أن النظام السوري كان مثل مافيا الأخطبوط – إذا تَمكّنتَ من الهروب من إحدى مجسّاته، فسوف يقوم بالتقاطك بالمجسّات الأخرى.
كنت أيضاً على دراية تامّة بالعقوبة المروعة التي تُنزل بفنانين آخرين. فقد تعرّض علي فرزات، رسام الكاريكاتير السياسي الشهير، للضرب المُبرح، وقام مسلحون موالون للأسد بتكسير أصابعه عمداً. وبعد بضعة أشهر، اختفى زكي كورديلو، وهو ممثل
وصديق عزيز، بشكل تعسفي بين عشية وضحاها.
كنت أتوقع أن يقوموا بقتلي بطريقة مروّعة في أي لحظة.
لقد أُجبِرتُ على الفرار من بلدي وأنا في الخمسينيات من عمري، تاركاً ورائي والديَّ المسنيْنِ، ومهنة التمثيل المُفعَمة بالحيوية، ومنزلي، وكلّ ممتلكاتي. وبدأت رحلة اللجوء للنجاة بحياتي، وأصبحت واحداً من أكثر من 89 مليون شخص في العالم اضطروا للهروب من الاضطهاد والحرب والكوارث الطبيعية.
لحسن الحظ، كانت زوجتي في الولايات المتحدة مُسبقاً تدرس السياسة العامة في جامعة مينيسوتا، وانضممت إليها هناك في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2011. وعندما طَلَبَت مني التوقيع على طلب للحصول على اللجوء في الولايات المتحدة، شاركتني حقيقة مؤلمة ومرعبة وهي أنه “لم يَعُدْ هناك وطن أعود إليه.”
وقمت بالتخلّي خلال وقت قصير عن اسمي الأول لأنه في كل مرة كنت أُعرّف فيها عن نفسي أي أحد في مينيسوتا، كان يتفاعل مع الاسم بـ “ريبة”. لذا تحوّل اسم جهاد – وهو الاسم الشائع في بلدي – إلى “جاي”. إن مجرد إعادة اكتشاف نفسك في بلد آخر أمر بسيط مثل تغيير اسمك.
استمرت عملية اللجوء لسنوات وكانت الحياة قاسية ومتوقفة بشكل دائم. كافحنا للعثور على عمل وحظيت بوظائف لـ “توصيل البيتزا” والزهور، لكنني لم أكن أجني ما يكفي لتغطية مصاريفنا الغذائية. كانت زيارة الطبيب بالنسبة لنا ترفاً لا يمكننا تحمل نفقته. كنا نُعاني من الجوع والخوف والوحدة.
ولكن وجودنا سويّاً، ومعرفتنا أن الثمن الباهظ الذي كنا ندفعه كان لأننا اتخذنا موقفاً أخلاقياً إلى جانب الأبرياء الآخرين، ضد آلة القتل التي هي النظام السوري كانا مصدر قوّة لنا.
في محاولة لإنعاش مسيرتي التمثيلية، قمنا بالتوجه إلى لوس أنجلوس في عام 2012. قمت بأكثر من مائة تجربة أداء دون أن أحصل على دور. أخيراً، تواصلت مع المخرج فيرنر هيرزوغ، الذي أعطاني دوراً في فيلمه “ملكة الصحراء” لعام 2015، بطولة نيكول كيدمان. كما تبع ذلك أدوارٌ صغيرة في أفلام أخرى تضم ممثلين مثل توم هانكس وبن أفليك.
حَصَلَت زوجتي في النهاية على وظيفة جيدة في مجالها، مما حرّرني من متابعة التمثيل. مرّ ما يقرب من عقد من الزمان قبل أن نصبح مواطنين أمريكيين. بكل المقاييس، نحن قصة نجاح – لاجئون تمكّنوا من بناء حياة جديدة منتجة في أمريكا.
منذ أن أصبحت لاجئاً منذ أكثر من عقد من الزمان، تضاعف عدد اللاجئين حول العالم الذين جاء أكثر من ثلثيهم من خمسة بلدان فقط. ليس من المُستغرب أن تتصدر سورية قائمة البلدان المُصدِّرة للاجئين، مع ما يقرب من 7 ملايين نازح. يعيش الملايين في مخيمات اللاجئين، التي نسيها العالم بأسره.
في كل تحدٍّ أخلاقي، يجد البعض الجرأة لاتخاذ موقف بينما البعض الآخر لا يجرؤ. لقد أصبح بعض الفنانين السوريين الذين كانوا في يوم من الأيام أصدقائي مؤيدين لنظام الأسد. اختاروا البقاء على الجانب المظلم من التاريخ وأنا اخترت البحث عن النور.
في التمثيلية القصيرة “باتجاه القِبلة”، ألعب دور لاجئ سوري يكافح لدفن زوجته وفقاً للشعائر الإسلامية. عندما فاز بجائزة Student Academy في عام 2017، جعلني أعتقد أنه يمكنني اللجوء إلى العمل السينمائي لزيادة الوعي بمحنة اللاجئين وإبراز المظالم الأخرى في العالم.
كثيراً ما يخبرني رفاقي اللاجئون أن قصتي ساعدتهم على التمسك بالأمل في أحلك لحظاتهم. لقد جعلني ذلك أدرك أنني أقوم بالفعل بدوري الأكبر وهو التحدّث علناً عن اللاجئين وأولئك الذين لا يستطيعون الهروب من العنف والفوضى في بلدانهم الأصلية، سواء من خلال النشاط أو مشاريع الأفلام التي أتابعها. وهذا هو السبب في أن رحلتي كلاجئ لن تنتهي أبداً.