نداء بوست- تقارير وتحقيقات- آلاء عوض
تزخر سورية بأغنى التراث الأثري في العالم وتحمل علامات العديد من الإمبراطوريات الكبرى، وصنّفت اليونسكو ستة مواقع أثرية عالمية فيها وهي دمشق القديمة وحلب القديمة ومدينة بصرى القديمة وقلعة الحصن وموقع تدمر والقرى القديمة في شمال سورية.
يُعَدّ حي “الحمراوي” من الأحياء التراثية القديمة في دمشق ويقع بين الجامع الأموي وقصر العظم ويضم 74 منزلاً و56 محلاً تجارياً.
الحي تاريخياً كان يسمى “زقاق ابن نوح”، قبل أن يبني القاضي كمال الحمراوي في عام 1480 داراً كبيرة ليُقتبس الاسم منه ثم بنى أسعد باشا العظم، وهو من كبار رجال الدولة العثمانية، قصر العظم على حدود الزقاق.
ويضم الحي سوقاً مشهوراً اسمه “سوق الصاغة” الذي تعرض إلى حريق في 1960 التهم جميع المحلات أصدر على إثره المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية المتحدة آنذاك قراراً باستملاك أحياء وأَزِقَّة الحيّ.
قصة الاستملاك
يروي رئيس لجنة أحياء دمشق القديمة “بدر الدين العوف” قصة الاستملاك الجائر للحي لإحدى الصحف المحلية: (لقد شبّ حريق في السوق سنة 1960 والتهمت النيران جميع المحلات هناك وقامت المحافظة آنذاك بتأمين المحلات في الحريقة وفي التكية السليمانية، فأصدر المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية المتحدة “آنذاك” قرارَ استملاكٍ باطلاً لا يعتمد على النفع العامّ يحمل الرقم 281 تاريخ 28/11/1960 يقضي باستملاك الأحياء وأزقة “الحمراوي، المصبغة الخضراء، النقاشات، الخجا، معاوية الصغير، سوق القباقبية، والشارع المستقيم” بغية إنشاء سوق تجاري أسمنتي قرب الجامع الأموي). ما دفع الأهالي للاعتراض على هذا القرار فتم ترميم الحي حينها، إلا أنّ هذا الأمر لم ينتهِ، فقد أصدرت محافظة دمشق عدة قرارات تؤكد إعادة استملاكه، ما يعني أنه في حال تنفيذ الاستملاك فسيتمّ هدم أكثر من 74 منزلاً و56 محلاً تجارياً.
آخِر قرارات إعادة الاستملاك كانت في 2018 بعد سنوات من التضييق وإهمال البنية التحتية وأهمها الصرف الصحي، الذي بدأ ينخر البيوتات المعمرة من أسفلها، والاعتماد في الترميم على الأعمدة الخشبية التي لا تمنع سقوط بعض البيوت، ليتلو ذلك لاحقاً استيلاء شركة “دمشق الشام القابضة” على حي الحمراوي ومن بينها العقارات المستملكة سابقاً .
معبد “جوبيتر” الكبير
يقع حي الحمراوي في الامتداد الجغرافي لمعبد “جوبيتر” الكبير العائد للحقبة الكلاسيكية (اليونانية – الرومانية) ومن ضِمنها الحقبة النبطية القصيرة.
بُني في العهد الروماني ابتداءً من حكم أغسطس وانتهاء بحكم قسطنطيوس الثاني، ولم يبقَ منه إلا بضعة أعمدة قُبالة باب الجامع الأموي وجزء من سور المعبد في الزقاق الخلفي للجامع الأموي، وجزء كبير منه (قدس الأقداس) كان في مكان جامع بني أمية الكبير، وتتناثر أجزاء من آثار هذا المعبد داخل بيوت ومحلات وخانات المدينة القديمة المحيطة بالجامع الأموي.
حجم المعبد ضخم جداً تبلغ مساحته مع الحرم المحيط به 117 ألف متر مربع وهو أكبر معبد في الشرق كله بعد معبد القدس والذي تُقدَّر مساحته مع حرمه بـ 140 ألف متر مربع.
وهو توسيع لمعبد حداد زيوس اليوناني والذي حوله الأنباط إلى مركز حج للإله بعل شمائين الذي طغى على إلههم القديم ذي الشرى خلال حقبة التوسع شمالاً، وللدلالة على أهمية هذا المعبد وحجمه العملاق يكفي النظر إلى الحجارة الباقية من بوابته الغربية التي كانت تتصل بالسور الروماني حيث كانت هناك بوابة قريبة من الحصن مخصصة للمعبد.
التدمير الذي جرى لهذا المعبد حصل في الحقبة البيزنطية حيث تم تحويله إلى كنيسة لم تشغل إلا جزءاً يعادل الربع من مساحة المعبد القديم.
وفي سبعينيات القرن الماضي اكتُشف معبد حوريات الماء الذي يُعَدّ جزءاً من معبد “جوبيتر” الكبير وجاءت تسميته بهذا الاسم بسبب الماء المقدس الذي كان يستخدم في الفترات التاريخية القديمة ويعود للعصر الروماني.
محاولات الأسد السطو على التراث الدمشقي
في منتصف 2018 نقلت محافظة دمشق ملكية حي الحمراوي الأثري في دمشق القديمة إلى شركة “دمشق الشام القابضة”، وعلّل حينها تقرير للجنة التخطيط في المحافظة نقل الأملاك للشركة “من أجل تفعيلها بعيداً عن الروتين، وللحصول على عائد مادي تستطيع المحافظة من خلاله زيادة مشاريعها الخدمية”.
وعلى إثر ذلك استملكت الشركة أكثر من 74 منزلاً و56 محلاً تجارياً، في منطقة حيوية من المدينة القديمة تضمّ كافة المهن التي يعتز بها الدمشقيون، إضافة إلى بيوت توارثها أهاليها أباً عن جد، وتعني لهم فوق قيمتها المادية قيمة وطنية وأخلاقية.
تأسست شركة “دمشق الشام القابضة” في كانون الأول 2016 برأسمال قدره 60 مليار ليرة سورية وترأّس مجلس إدارتها بشر الصبان، منذ تأسيسها حتى إقالته من منصبه كمحافظ دمشق في تشرين الثاني 2018، بموجب مرسومٍ جمهوري.
ويُتَّهم الصبان بمحاولة تغيير النسيج العمراني لدمشق، وتدمير بعض المواقع الأثرية المهمة، لصالح مشاريع يُقال إن إيران تقف خلفها.
النظام ورمزية إهمال الآثار
يقول الباحث محمد نور النمر: إن محاولات طمس الهُوِيَّة الوطنية في سورية كانت ممنهجة من قِبل نظام الأسد على كافة المستويات ومنها ما يخص موضوع الآثار وتراث المنطقة، وعلى الرغم من أن المواطن السوري متفرّد بتكوينه؛ كونه نشأ في مكان مُتخَم بملامح تاريخية، إلا أن النظام استطاع التلاعب على هذا التكوين أيضاً.
وأضاف لـ “نداء بوست” أن الأنا عند السوري -من المفترض- أن تكون أكثر رسوخاً وصلابةً، ومع ذلك فإن ما فعله الأسد الأب والابن لطمس الهُوِيَّة والانتماء آتى أُكُلَه في معظم الأوساط السورية وهو ما نحصده الآن من ضياع للهُوِيَّة الوطنية لدى السوريين جميعاً.
وأردف أن التربية على منجزات القائد هي ما عرفه السوريون طيلة عقود، فـ “الأنا” والبُعد الحضاري القديم هما عنصران مهمّان من عناصر بناء الهُوِيَّة الوطنية، وفي سورية دُفنت أي ثقافة للتعريف بالبُعد الحضاري للآثار وكان هنالك هدف خفي وراء ذلك أسّس له حافظ الأسد وأكمله ابنه عَبْر ما يمكن تسميته “قطيعة مع التاريخ”، ليوحي للشعب أن لا تاريخ للمنطقة قبله وأنه هو باني سورية الحديثة، وكان من الصعب تكريس الأسد كـ “بطل إله” إلا عَبْر إهمال تاريخ المنطقة ومعالمها.
لذا كنا نرى في سورية تماثيل حافظ الأسد عوضاً عن “الرمزيات التاريخية”، ذلك أن السردية التاريخية الحضارية التي أراد الأسد إيصالها هي أن التاريخ بدأ مع منجزاته والحضارة أيضاً وتضخيم ما فعله ما هو إلا تقزيم لكل شيء آخر.
ولفت إلى أن الكثير من السوريين وحتى الدمشقيين الأصليين لا يعرفون كثيراً عن تاريخ المنطقة ولا يشعرون بالانتماء العميق لها ومنهم من أبناء الحارات القديمة ويمتلكون فيها بيوتاً ومحالَّ تجارية، منوّهاً بأن المناهج المدرسية كانت خالية أيضاً من ثقافة التعريف بإرث المناطق الأثرية (وهذا مُتعمَّد) وحتى الرحلات المدرسية كانت مقتصرة على زيارة منجزات ومشاريع الأسد لا المواقع الأثرية.
يؤكد العديد من الباحثين في الآثار أن الدراسات التي تناولت المواقع الأثرية وبعثات التنقيب في سورية كانت محدودة وشحيحة وأن النظام لم يكترث بالمواقع الأثرية إلا في سبيل تحقيق مكاسب تخصه.
وبعد اندلاع الثورة دمرت غارات النظام وروسيا مواقع أثرية في تدمر وإدلب وبصرى الشام وغيرها وأصبحت دمشق القديمة مع نظيراتها من المواقع السورية المصنفة على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني على قائمة “مواقع التراث العالمي المهددة”.
فضلاً عن أسلوب الإهمال وتعمُّد طمس الذاكرة الذي مارسه الأسد الأب والابن طيلة سني حكمهما المادي والمعنوي، إلا أن ما تبقَّى من ملامح الحضارة الدمشقية ما زال يعكس روح المنطقة وعُمق تاريخها وجمالها البعيد كليّاً عن رداءة الأسد، وفساد حكمه.