“جونسون” رئيس الوزراء البريطاني وفي تصريح سابق باجتماع للدول ذات الاقتصاديات الكبرى السبع G7 الذي عُقد في ألمانيا قال: “إن حظر الذهب الروسي سيضرب قلب آلة بوتين الحربية”، وهنا نحن نتساءل هل سيجعل جونسون والغرب عموماً من الذهب الروسي قيمة كقيمة نبتة العود العطرية في أرضها؟!.
في خطوة جديدة لواشنطن والحكومات الغربية الهادفة لإيلام موسكو اقتصادياً أكثر ، وتوسيعاً لنطاق العقوبات المفروضة عليها نتيجة جرائم الحرب المرتكبة، وضربها بعرض الحائط قوانين الشرعية الدولية من خلال غزوها لأوكرانيا، وعليه فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن ورؤساء مجموعة الاقتصاديات السبع الكبرى التي تضم (أمريكا، وكندا، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا) في اجتماعاتهم التي عقدت في وقت سابق في قصر “ألماو” في بافاريا جنوبي ألمانيا، قد اتفقوا على حظر استيراد الذهب الروسي، ما يعني أن استيراد هذا الذهب أيضاً اقترب أو كاد يقترب من القفز إلى لائحة الحظر التي كلما مر الوقت أكثر على الغزو فإنها تزداد مفرداتها نوعاً وكمّاً، ما يعني أيضاً أن عقوبات جديدة متنوعة أخرى تندرج في تعاملات الذهب مع موسكو في طريقها لأن تكون واقعاً ملموساً سيزيد أكثر من وطأة العقوبات وتأثيراتها الكبيرة على الاقتصاد الروسي الذي حقيقةً يشتد أنينه تحت وطأة كل حزمة من الحزم العقابية التي يقوم الغرب بفرضها على روسيا.
في الواقع وتطبيقاً للعقوبات الجديدة، فقد عمدت وزارة الخزانة الأمريكية إلى إصدار قانون تحظر فيه استيراد الذهب الروسي، وهذا ما سيجعل من روسيا تغرد منفردة خارج نطاق سوق الذهب العالمي وتداولاته، الأمر الذي سيحرمها من مليارات الدولارات التي كانت سترفد فيها خزينتها وتقويها في هذه الأوقات الحرجة التي يمر فيها اقتصادها، وخاصة أن الذهب يشكل عملياً المادة الثانية بعد الغاز في صادراتها وواردات الغرب، والمعطيات المتوفرة تقول إن حجم كارثة مثل هذا القرار على روسيا سيكون كبيراً إذا علمنا أن الكمية التي تنتجها روسيا من الذهب تصل إلى ما يقارب 10 بالمائة من الإنتاج العالمي.
بريطانيا هي الدولة الأكثر استيراداً للذهب من موسكو, إذ إنها تستورد سنوياً من المعدن الأصفر الروسي بمليارات الدولارات، فعلى سبيل المثال فقد وصل حجم الصادرات الروسية من الذهب إلى بريطانيا 15 مليار يورو ، أي ما يشكل نسبة 28% من حجم واردات الذهب التي تقوم باستيرادها بريطانيا عموماً، أما أمريكا فتعد ربما أقل المستوردين من الذهب الروسي، حيث بلغ حجم استيرادها منه في عام 2019 فقط 200 مليون دولار. ليتراجع في السنوات التي تلت هذا العام استيرادها منه بشكل كبير. إذاً فبريطانيا كأحد أعضاء مجموعة الدول السبع هي بلا شك من أكثر الدول التي فرضت عقوبات مالية واقتصادية ونفطية ضخمة مؤلمة على الاقتصاد الروسي، لا بل وعلى شخصيات وكيانات روسية نافذة، حيث بلغ عدد الكيانات الكبيرة المتنفذة التي طالتها العقوبات البريطانية ما يربو على مائة كيان وأكثر من ألف شخصية، وذلك منذ الغزو الروسي الدامي لأوكرانيا.
عملياً فإن هذا القرار الذي اتخذته مجموعة الاقتصاديات السبع بات ساري المفعول ، ولا شك بأنه -أي القرار- سيكون له ما له من آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد المالي الروسي حيث سيحرمها تطبيقه من التفاعل مع أكبر وأضخم مركزين تجاريين لسوق المعادن النفيسة في العالم أي سوقي “نيوريورك ولندن “، وبطبيعة الحال فإن”موسكو” ستحاول جاهدة الالتفاف على هذه العقوبات، بطرق أقل ما يقال فيها إنها تشابه إلى حد كبير عمليات غسل الأموال التي يكون مصدرها غير مشروع لتوظف في أنشطة تجارية واقتصادية مشروعة، وذلك لتفادي المسألة القانونية والجزائية والتهرب من عواقبها، ولكن الغرب بتصوري متحسب وعلى دراية وعلم تام بالطرق والأساليب التي ستلجأ إليها موسكو لتفادي العقوبات المرهقة عليها اقتصادياً ومالياً.
بلا شك فإن العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على موسكو ستحقق جانباً كبيراً مما يرمي إليه الغرب ويريد، ولكن في المقلب الآخر فيمكن أيضاً لهذه العقوبات أن تترك آثارها السلبية وارتداداتها العديدة الصعبة والتي ستنعكس بشكل أو آخر على جوانب كثيرة أخرى ،فهي -أي العقوبات- كالسكين ذي حدين فمن ناحية لا شك بأن قرار حظر الذهب الروسي ومنع استيراده من قبل الدول السبع ومن سيتبعها لاحقاً من الدول الغربية المتضامنة مع هذا القرار المتخذ، سيضيق على موسكو ويؤذيها اقتصادياً وتجارياً ومالياً، ولكن بالتأكيد سيؤدي -وأقصد هنا القرار- أيضاً إلى مضاعفات وعواقب اقتصادية دولية لا تحمد عقباها.
وهو الأمر الذي سيجعل أسعار الذهب تقفز لأعلى مستوياتها في سوق الذهب العالمي، كالذي رأيناه عقب حظر النفط والغاز الروسيين، وكيف ارتفعت أسعارهما وتسجيلهما أرقاماً قياسية انعكست نتائجها الوخيمة على كافة دول العالم، وخاصة على الدول النامية والفقيرة، ورأينا ما حدث أيضاً وكيف ارتفعت أسعار الحبوب مما أدى إلى زعزعة الأمن الغذائي.
العالمي الذي أصبح يعاني الآن من آثار الغزو الروسي وما تبعه وسيتبعه من آثار جانبية أخرى.
الغرب ومعه أمريكا باتوا يضيقون الخناق على روسيا على جميع الصُعد التي يرَون أنها تؤدي وتزيد من الضغط عليها لإعادة حساباتها حول غزوها لأوكرانيا، ووضعها في خانة ضيقة لا تملك فيها إلا قليلاً من الخيارات التي تقل مع كل حزمة جديدة من العقوبات المفروضة، فبالأمس القريب العقوبات المفروضة على موسكو لم ينجُ منها حتى الجانب الرياضي، مروراً بحظر مالي متمثلاً بحظرها عن نظام سويفت العالمي، وعقوبات أخرى يضيق الوقت عن ذكرها جميعاً حيث يأتي النفط والغاز الذي يعتبر عصب الصادرات الروسية للغرب على رأسها، والذي كانت تظن موسكو معه أن لا قِبلَ للغرب بالتخلي عنهما، أما ما حدث فالعكس فالغرب بات منهمكاً يبحث عن بدائل أخرى لهما.
ختاماً…. الغرب أدرك قيمة المعادن النفيسة التي تمدُّ موسكو بنفقات حربها فطفق يجففها من منابعها، مانعاً مرورها عبر جداول وسواقي تنعش الاقتصاد الروسي الذي بدأ يترنح، وربما سيزداد ترنحاً مع مرور الوقت، وربما الغرب قد أدرك ما عناهُ الإمام الشافعي وهو يحض على السفر والتنقل ويعدد فوائده ليس للإنسان فقط بل حتى للبضائع وللتجارة ورأى في منع انتقال الذهب والمعادن النفيسة من مكان لآخر وتجميدها في أرضها ما يجعلها منخفضة القيمة، فما يزيد في قيمة الذهب -حسب الشافعي- انتقاله من دولة فيها الكثير منه إلى دولة أخرى لا وجود له -أي الذهب- فيها فالإمام الشافعي يقول في هذا:
والتبرُ كالتربِ ملقًى في أماكنهِ
والعودُ في أرضه نوعٌ منَ الحطبِ..
فإنْ تغرّب هذا عزَّ مطلبهُ
وإنْ تَغرَّب ذاكَ عَزّ كالذّهبِ..