لم يكن المحتوى الذي تضمنه فيلم "الجهادي" الذي أنتجه الصحفي الأمريكي "مارتن سميث" ونشره موقع "فرونت لاين"، أو "الخط الأمامي" مفاجئاً للمهتمين بتحولات "تحرير الشام" الملفتة للانتباه جديداً من حيث المعلومات التي كان يتم تداولها كشائعات، لكنه كان مفاجئاً بكل معنى الكلمة لأن المعلومات المتداولة بين المهتمين كشائعات تم إقرارها بلسان "الجولاني" نفسه اليوم كحقائق.
رغم محاولات "مارتن سميث" أن يبدو في الفيلم متوازناً وموضوعياً وبعيداً عن تهمة التحيز لتلميع "الجولاني" وأبرز أصوات المعارضين لـ"الجولاني" وسؤاله عن الانتهاكات داخل سجونه لكن الفيلم بدا وكأنه يقدم "الجولاني" كشخصية مختلفة تماماً عما كان معروفاً عنه في السابق.
إننا أمام رجل آخر كما لم نعرفه من قبل، ومشروع وتنظيم مختلف تماماً عن "جبهة النصرة".
في هذا الفيلم الطويل الذي امتد طوال 52 دقيقة، يسرد قصة حياة "الجولاني" ونشأته وطفولته لكن ليس هذه هو المهم، المهم هو رأي "الجولاني" الجديد في تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، ورأيه في حقوق الأقليات والعلاقة مع الغرب و"العمليات الاستشهادية" والتصنيف على قوائم "الإرهاب"، كل ذلك بدا فيه "الجولاني" مختلفاً عن كل خطاباته السابقة وظهوره الإعلامي السابق الذي مر به من مرحلة الشروال الشامي المطرز والظهر المفتول للجمهور إلى عمامة "بن لادن" والكوفية الخليجية والبدلة العسكرية، وصولاً إلى البدلة الرسمية وإن كان ينقصها ربطة العنق لكنها بكل حال خطوة مهمة وإشارة واضحة أن التغيير القادم ليس مجرد بدلة ولباس، وإنما هو اتجاه فكري وسياسي ونهج جديد يتسم بالبرغماتية والعقلانية المتجاوزة للأيديولوجيا المغلقة إنها دلالة على نهج إسلامي أكثر انفتاحاً ليس شرطاً ألا يكون سلفياً لكنه بالتأكيد لن يكون جهادياً.
"الجولاني" في الأمس
في الأمس كان الخلاف السابق مع تنظيم الدولة خلافاً ضمن الأسرة الواحدة، والبيعة لتنظيم القاعدة بيعة على السمع والطاعة وأمريكا والغرب هم العدو الأكبر للإسلام والمسلمين والأقليات طوائف ردة وعليها أن تعلن إسلامها، وقاتلهم لا يقتل كما فظع "سفينة التونسي" في "قلب لوزة" القرية الدرزية ثم أفلت من العقاب، والصحفيون الأجانب مادة للخطف والبيع وطلب الفدية لتمويل الجهاد، والحرب في سوريا هي مجرد ساحة جهادية وتجربة تمتد إلى تجارب الجهاد الأخرى للسلفية الجهادية، والمقاتلون الأجانب إخوتنا من مسهم بسوء قاتلناه والدعوة لفك الارتباط بالقاعدة دعوة مشبوهة من المرجفين وتركيا دولة علمانية كافرة لا نجيز التعامل معها، والجلوس مع الغرب مناط ردة وكفر، والتصنيف على قوائم الإرهاب مدعاة للفخر، ومن يسأل عن اسم "الجولاني" فالجواب الحاضر أن الضرورات الأمنية لا تسمح والهدنة العسكرية مع النظام تحت أي مبرر هي خيانة عظمى.
"الجولاني" اليوم
لم تمض بضع سنوات على خطاب "الجولاني" القديم حتى جاء اليوم الذي يعتبر فيه القاعدة نهجاً خاطئاً منحرفاً وأحداث 11 سبتمبر جريمة لا نوافق عليها وتنظيم الدولة تنظيم محظور، و"تحرير الشام" هي من تقوم بقتاله في إدلب اليوم والتصنيف على قوائم "الإرهاب" تصنيف سياسي وحكم جائر وعلى الغرب إعادة النظر فيه والسعي في إزالته واجب شرعي، وصار لدينا اليوم مصالح مهمة مع الولايات المتحدة والغرب والصحفيون الأجانب مرحب بهم في ربوع إدلب لينقلوا الحقيقة إلى العالم ونحن من يتعهد بحمايتهم وحريتهم مكفولة علينا، والمنظمات الإغاثية الغربية مدعوة لمساعدة الشعب السوري الذي يعاني الشدة والفقر وتركيا دولة حليفة وصديقة وأي مقاتل أجنبي يمسها بسوء سنتولى نحن قتاله، وما يجري في سوريا هو ثورة شعبية ضد نظام سفاح مجرم وليس تجربة جهادية لقتال الكفار والمرتدين والنظام "النصيري" وبات علم الثورة هو العلم المرفوع في مظاهرات إدلب بعد منعه لسنوات، وقد وصل "الجولاني" إلى درجة كبيرة من الشفافية ليفصح عن اسمه وعن أحوال عائلته بالتفاصيل والتواريخ التي كانت محرمة من قبل والأقليات والطوائف حقهم في العدل مكفول بنص الشريعة، ومن يحاول خرق الهدنة اليوم مع النظام فهو عميل مأجور ونحن من سيتولى قتاله.
يحاول "الجولاني" بهذا الخطاب كسر العزلة الدولية عن نفسه والخروج من حالة التعامل معه كميليشيا مارقة إلى التعامل معه كحركة تحرر وطني ذات بعد محلي.
يمكن أن يكون للفيلم تأثير على مستوى الرأي العام في الغرب لتحقيق فهم أكثر لحقيقة "تحرير الشام" التي باتت تشكل حالة مختلفة تماماً عن القاعدة وتنظيم الدولة، لكن الفيلم بنفس الوقت يدور في نفس الحلقة ويصور "تحرير الشام" كتنظيم إسلامي متشدد و"الجولاني" كرجل مستبد غير منفتح وهو ما يبقي "تحرير الشام" في دائرة التشكيك والحذر.
بالنسبة للموقف الدولي يمكن أن يشكل الفيلم مع عدد من العوامل المؤثرة كالدراسات التي تشرح البنية التنظيمية والفكرية لـ"تحرير الشام" والتقارير التي تتناول تحولات "تحرير الشام" والتغيرات الملحوظة تأثيراً على المدى البعيد في مواقف مراكز صنع القرار الغربية من "الهيئة".
لكن يبدو أن الموقف الغربي من "تحرير الشام" لا ينطلق أساساً من نقص في المعلومات عنها أو عدم اتضاح خطابها الإعلامي وسياستها الجديدة، لكنه ينطلق من حسابات سياسية وأوراق تفاوضية مع بعض الدول الإقليمية مثل تركيا لبحث مستقبلها في سوريا.
بعد كل هذا الخطاب الجديد والتحول الشبيه بالجذري الذي حققته "تحرير الشام" بين الأمس واليوم والذي يرجح أنه ليس مجرد خطابٍ فرضته حالة الضعف وعقدة البحث عن استمرار الوجود والحفاظ على الحالة السلطوية يمارسه "الجولاني" كنوع من التقية مؤقتاً بانتظار تحول المعطيات ليعود إلى خطابه الراديكالي.
ومن الواضح أن ما يفعله "الجولاني" هو قناعة حقيقية وتحولات جذرية حقيقية.
لكن يبقى السؤال؟ هل سيكون لهذا الخطاب ذلك أثر في مسامع مراكز صنع القرار في الغرب وإذا كان هذا خطاب "الجولاني" الموجه للخارج والغرب فما هو خطابه لجمهور الثورة؟
وهل يرى "الجولاني" أن التحدي الوحيد أمامه هو مشكلة الإرهاب وأنه لا يرى مشكلة الاستبداد والتفرد السلطوي قضية تستحق الحديث فيها لمصالحة الثورة؟