نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
السوريون في الأردن ليسوا استثناءً، ويشعرون، بالتالي، بما يشعر به معظم الشعب السوري من تراجُع زخم الثورة، ونجاح التآمُر عليها، إلى حد بعيد، بإصابتها، قد لا يكون في مقتل، ولكن إصابة بليغة، عميقة. وهم شأنهم شأن السوريين في داخل سورية وخارجها، يرون أن عليهم -لعيون ثورتهم- أن يقولوا: الضربة التي لم تقتلنا ينبغي أن تقوينا وتعيدنا إلى الأيام الخوالي عندما كان هدير ثورتنا يدوي في كل أرجاء بلدنا ويمتد صَدَاه إلى جهات العالم الأربع.
ما يميّزهم عن غيرهم من سوريي الشتات، أو ممن بقوا في بلادهم نازحين داخلها، أو ثابتين، رغم كل الصعوبات والأزمات والمخاطر، في بلداتهم حيث وُلدوا وكبروا وحلموا، أن واقعيتهم أكثر وضوحاً، وهي الواقعية التي فرضت عليهم الانخراط في سؤال العيش أكثر من الانخراط في أي أمر آخر. هذا ما حاول (أبو محمد) توضيحه لنا، وما أعلنته (أم بحر) بدون أي مُوارَبة ولا لفّ ولا دوران.
واقعية اللاجئين السوريين في الأردن يعود السبب الأهم لها، أن الآلاف منهم غادروا مخيمات اللجوء شمال وشمال شرق الأردن، وانخرطوا في سوق العمل الأردني؛ عاملين، أو مشاركين في مشاريع استثمارية، أو حتى مالكين لمطاعم ومصانع وما إلى ذلك. وهو ما يفرض عليهم شروطاً واستحقاقات، أدركوا، بشكل، أو بآخر، ضرورة تقيُّدهم بها واحترام موجباتها: (أبو حمزة لك أخي بدنا ناكل.. بدنا نربّي ولادنا.. أخي راح شهيد في الزبداني.. ابن أختي ما كمّل 18 سنة فقدناه أيضاً.. ولادي بمدارس الحكومة.. بنتي رح تدخل الجامعة السنة هاي. خلص هون صرنا وهون مربط فرسنا). هكذا يوضح لي (أبو محمد) عدم رغبته الحديث عن ثورة شعبه ضد الطاغية.
ما تمكّنت من التقاطه أثناء حديثي مع جاري الهارب من جحيم الموت في الزبداني عندما أصبحت مدينته، مستهدَفة، ليس من جيش النظام فقط، ولكن أيضاً من صواريخ حزب الله وميليشيات أخرى، أن لديه معلومات، أو تكهنات، تتعلق بتقارب بين النظاميْنِ السوري والأردني، وبالتالي، فإن صمته، كما يرى، هو ملاذه وأبلغ ما يمكن أن يقول.
تقاربٌ جعل كثيراً ممن تواصلت معهم، إما يرفضون الحديث، أو يطلبون عدم إيراد أسمائهم، فالسوريون في الأردن؛ داخل المخيمات وخارجها ممن تتوزعهم معظم محافظات الأردن، خصوصاً العاصمة الأردنية عمّان، ومحافظات الشمال (إربد والرمثا على وجه التحديد أكثر من باقي المدن الأردنية)، يتابعون الأخبار، ويراقبون بحذر تفاصيل هذا التقارب.
الواقعية المتصالحة مع محيطها، جعلت (أم عبد الله) تثني على دور الأردن مع اللاجئين، قائلة: “الأردن ما قصّر معنا، لكن لا يوجد مثل بلدك سورية، وإنْ شاء الله تهدأ الأوضاع ونعود، مع العلم بأنني أرى ذلك بعيداً، خاصة مع ما يجري في العالم”.
أما المستجد الأخطر، برأي كثير منهم، فهي الحرب الروسية على أوكرانيا، “نظامنا تابع لروسيا”، عبارة استهل بها (أبو أحمد) كلامه معبِّراً عن مخاوفه من تداعيات هجمات حليف النظام في بلادهم على أوكرانيا، وأثر ذلك على إمكانية حل “محتمل”، مع مرور 11 عاماً على ثورتهم.
(أبو أحمد) أضاف قائلاً: “روسيا تُصارع العالم، ولا يهمها إنْ طالت الأزمة في سورية أعواماً أخرى، وبهجومها على أوكرانيا، ستُعطي بشار الأسد قوة إضافية؛ لمواصلة التنكيل وتصفية حساباته مع الثوار”.
الثورة فكرة
وسط منغصات التشاؤم هذه، يطلع صوت الصديق إياد التنبكجي مفعماً بالأمل، متمسِّكاً بالوعي الذي حصّنه عند إياد سعة ثقافته وعمله في الإعلام، وانغماسه برغيف العيش عَبْر العمل في صناعة الحلويات التي برع فيها، وخبرته، إلى ذلك، بعمل مطاعم الشاورما والمشاوي والمعجنات والسناكات.
يقول التنبكجي: “صحيح أن التفاعل مع ذكرى الثورة خفّ أو انعدم، ليس في الأردن فقط، ولكن في معظم دول العالم، ومع كل هذا التراجع فإن نسيان ثورتنا، كما يحلم بذلك النظام، غير وارد، الثورة فكرة والفكرة لا تموت. قد تكون الفعاليات الميدانية لهذه الفكرة توقفت في الداخل وفي الخارج، ولكن هذا لا يعني موت الفكرة، أو اندحارها أمام قسوة الواقع. أنا شخصياً مع تحوُّلها إلى نشاطات فنية وجمالية عن بُعد. من خلال أعمال درامية مسرحية وتلفزيونية وسينمائية وأغاني وموسيقى ولوحات تشكيلية. تابعتُ، على سبيل المثال، في هذا السياق، تقريراً حول النحات أكرم أبو الفوز الذي ينحت فوق القذائف والذخائر ويحولها إلى دلالات فنية.
يواصل إياد حديثه لـ “نداء بوست”، قائلاً: “كثير من الناس تطرّقوا لخيانات قادة من الجيش الحر، وبعض الفصائل، وحتى بعض رموز المعارضة، وتحدّثوا عن فساد وسرقات. من وجهة نظري الشخصية، نسيان الثورة هو أيضاً بحدّ ذاته خيانة. فالملايين الذين تشردوا، ومئات الآلاف الذين استُشهدوا، دون أن ننسى الكيماوي والمجازر والضحايا من الأطفال، يفرضون علينا أن لا ننسى. مهما كان السوري يتعب ويشقى ويبحث عن لقمة عيشه، ولا يريد أي شيء آخر، لكن، ومع كل هذا وذاك، على الفكرة أن لا تموت، وهي فعلاً لن تموت. مش مطلوب من الناس تبذل فوق طاقتها، وحالياً مش مطلوب مواجهة ميدانية عواقبها مجهولة، ولكن، ونحن نعيش عصر الأونلاين، فبالإمكان المشاركة بالطريقة التي يراها كل واحد منا مناسبة. حملات التبرع، على سبيل المثال، التي تنشط في الشتاء أيام البرد والمطر “كمشة دفا” على سبيل المثال. وهذه جميعها تصبّ في مصلحة الثورة السورية. وطالما هذه النشاطات والمبادرات موجودة، فالثورة، شاء النظام أم أبى، مستمرة ومتواصلة. كما أن هذه النشاطات والمبادرات والحملات تؤكد أنها ثورة إنسانية. نحن نعترف بهزيمة الثورة عسكرياً، ولكنها لم تنهزم بوصفها فكرة مزروعة في العقول والأرواح ووجدان شعبنا السوري. ولن يأتي يوم لا نعود نرى فيه عَلَم الثورة يرفرف هنا أو هناك. لن ينسى أهل الشهداء. لن ينسى أهالي ضحايا المجازر. ولتأكيد أن الثورة لا تنسى ولن تنسى، فمواقع التواصل امتلأت باستعادة روح الثورة في ذكراها بعد 11 عاماً من انطلاقها، رغم انشغال الناس بحرب روسيا على أوكرانيا، إلا أن ذكرى الثورة سرقت البريق، وعادت بين عشية وضحاها (تريند) وأكثر المواضيع تداولاً”.
التنبكجي يختم حديثه معنا قائلاً: “انظر لما جرى في مدينة الباب وإدلب، روح الثورة ما تزال حيّة ومتدفقة كما لو أنها في بداياتها وأوجها. ما يروّج غير صحيح (بكرة الناس بتنسى، بكرة ما بعود حد بيسأل) كل هذا غير صحيح.
لا شك أن مسيرة الثورة اعتراها بعض السلبيات، ولسنا بوارد الخوض بهذه المسائل، لكن الناس الذين لا يزالون يعملون من صميم قلوبهم وصدق مشاعرهم وعميق إيمانهم بالثورة وبحتمية انتصارها في نهاية المطاف، ما يزالون يتصدرون المشهد، وهم منتشرون في كل مكان داخل سورية وخارجها”.
غضب مشروع..
من جهته، وبغضبٍ مشروع، يحمل الفنان السوري نوار بلبل على القادة السياسيين والعسكريين على السواء، رائياً أن خطاياهم طعنت ظهر الثورة:
“بعد 11 عاماً من اندلاع الثورة السورية، فإن الأجدى بنا اليوم -نحن السوريين- أن نشرع بمراجعة شاملة ومفصلة، تضع في حساباتها التطورات الدولية الراهنة، خصوصاً الحرب الروسية على أوكرانيا، على أن تشمل المراجعة هذه تقييمنا لأداء قادة المعارضة الميدانية والسياسية وعموم قادة الفصائل، هؤلاء جميعهم ينبغي أن (نشيلُن ونكبُّن بأقرب مزبلة من.. إلى) لا أستثني أحداً، بهذا، وهنا فقط، نستعيد ثورتنا بوهج أيامها الأولى الجميلة المشرقة الواعدة. وعندها -وعندها فقط- بإمكاننا إعادة قاطرة الثورة إلى سكّتها الصحيحة. بقاءُ القادة أنفسهم، السياسيين والعسكريين، يعني أننا ما نزال ندور حول الحلقة المفرغة نفسها”.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية