”نداء بوست“ – وجيه حداد – دمشق
انتهى الزمن الذي كان يُحاجِج فيه موالون سوريون بأنهم يعيشون شرط الحرية بشكل عامّ، بقولهم “كل شيء في سورية مباح ومتاح إلا الاقتراب من السياسة! وتكفينا هذه الحرية، فلا شأن لنا بالسياسة، فأعمالنا وتجارتنا وحياتنا تسير كما نشتهي، ولا أحد يتدخل فيها.
لم يعد بوسع أشد الموالين نفاقاً أن يقولوا ذلك، فكل حياتهم باتت مرهونة بالسياسة والأمن بشكل مباشر وجَلِيّ، فلم يعد مسموحاً لهم ببيع عقاراتهم أو حتى تأجيرها للغير، دون موافقة أمنية مطلوبة لكل أطراف العلاقة من البائع والمشتري والمستأجر، وغالباً ما يمتد زمن الحصول على الموافقات الأمنية إلى شهور عدة تُفضي أحياناً إلى تغير في شروط البيع والأسعار، ما يجعلها عرضة للفشل التعاقدي، قبل أن تصدر الموافقة الأمنية، أو الرفض.
وما عاد في وسعهم أن يحصلوا على أموالهم التي أودعوها في البنوك السورية، بعد تحديد البنك المركزي لسقوف منخفضة من السحب اليومي المسموح لهم، وبات عليهم الدوام الطويل في البنوك لأشهر للحصول على ثمن سيارة، أو إقامة حفل زفاف لأبنائهم، ويتطلب توكيل آخرين ينوبون عنهم في السحب موافقات أمنية معقدة ومتعددة.
وبالطبع، ليس متاحاً للسوري أن يتفقد بيته في المناطق المدمرة أو المُستولَى عليها من قِبل النظام إلا بعد الحصول على موافقة أمنية بهذا الخصوص، ولمرة واحدة فقط، ضِمن زيارة تفقدية لأملاكه لا تتعدى الساعة الواحدة، ولا فارق هنا بين الموالين وغير الموالين، إلا بقدرتهم على استحصال الموافقة الأمنية.
وفيما فرضت حالة الشتات السوري مزيداً من توكيلات المهاجرين واللاجئين لذويهم في الداخل، وبات لزاماً على كل الوكالات أن تحظى بموافقات أمنية، تَفَتَّقت العقلية التشبيحية عن فكرة إلغاء مفاعيل الوكالات العامة، رغم شمولها على التفويض العامّ، وعدم القبول بها، واشترطت لكل موضوع وكالة خاصة به.
فعلى السوري المهاجر على سبيل المثال أن يُوكِّل أخاه بوكالة خاصة تتعلق بإيجار بيته فقط، وبوكالة أخرى تسمح له بمتابعة معاملة الوحيد لابن أخيه المقيم في الخارج، ووكالة ثالثة لبيع سيارة أخيه، ورابعة لاستصدار وثائق شخصية، أو معاملة أضرار، وهكذا يتطلب الأمر موافقة أمنية لكل موضوع على حدة.
وتتعدى الموافقات الأمنية في سورية كونها إجراءً يتعلق بالسيطرة والتحكم بحياة السوريين ومصالحهم إلى كونها مصدراً مالياً مُهِمّاً لعناصر الأجهزة الأمنية الموكلين بالتقصي وبمعاملات الموافقة الأمنية، وهو أمر مألوف في سورية سابقاً، لكن الجديد فيه اتساعه ليشمل معظم نواحي الحياة ومفاعيلها الاقتصادية وقدرة السوريين على الحركة في جوّ من التعقيدات القانونية والإدارية المتزايدة على الدوام.
ويتحدد حجم المبلغ المطلوب من المواطن تبعاً لحجم الموضوع المتعلق به اقتصادياً، أو خدمياً، فموافقة أمنية على بيع بيت في منطقة راقية تتطلب الملايين، والموافقة الأمنية على مزاولة نشاط اقتصادي تتحدد تبعاً لرأسمال النشاط الاقتصادي، أما الموافقات الأمنية لحالات خدمية بسيطة فتصل إلى مئات الألوف.
الموالون الذين رحَّبوا في زمنٍ ما بتلك الإجراءات التي بدت عند صدورها، وكأنها موجهة ضد الآخر المشكوك بولائه، أدركوا مؤخراً أن تلك الإجراءات باتت تنعكس على حياتهم اليومية ونشاطهم الاقتصادي، بشكل مباشر وجَلِيّ، وأنهم الأكثر تضرراً منها.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية وتراجع مستويات المعيشة العامة في البلاد وعجز الموالين حالياً عن ممارسة أبسط الحقوق الاقتصادية التي اعتادوها أو يحتاجونها دون الحصول على موافقات أمنية مسبقة، أصبحوا أكثر إدراكاً لعلاقة الاستبداد بأنماط الفساد المحمية بقوة الواقع الأمني المختبئ خلف قوانينَ وتعاميمَ تصدر يومياً، وباتوا أكثر جرأة في التعبير عن تلك العلاقة.
من الصحيح أن الموالين -الذين اعتبروا الحريات السياسية في زمنٍ ما، أمراً هامشياً، وأن بإمكانهم متابعة “الحياة الجميلة” من دونها ووقفوا في وجه المطالبين بها، وأطلقوا عليهم صفات التآمر- باتوا اليوم، بلا شك، أقرب في إشاراتهم لفهم العلاقة بين الاقتصاد والسياسة من خلال الحديث عن تواطُؤ أو إهمال القيادة العُليا، كما يسمونها، لشؤون حياتهم المتدهورة إلى قاع الحضيض، وتحكُّم النُّخَب الاقتصادية بهم، لكنهم بالتأكيد لم يصلوا بعدُ إلى اعتبار مأساتهم المعيشية والاقتصادية، كناتج رئيسي للاستبداد السياسي.