تخطو كل من واشنطن وطهران خطوات متباعدة عن النقطة التي تمكِّن الطرفين من إعادة إحياء الاتفاق النووي المعروف بـ "خطة العمل الشاملة المشتركة"، التي تم التوصل إليها عام 2015 بينَ إيران ومجموعة (5+1)، التي انسحب منها الرئيس السابق "دونالد ترامب" عام 2018، وأعاد فرض العقوبات على إيران ضِمن سياسة "الضغوط القصوى" الرامية إلى إعادة طهران لطاولة مفاوضاتٍ تتلافى نواقص الاتفاق المذكور، ولا سيما فيما يتعلق بالبرنامج الصاروخي والسلوك الإقليمي الإيراني، وهو ما تسعى له الإدارة الأمريكية الحالية.
يُعتبر الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن من الفريق الأمريكي الذي توقَّع تغيراً في السلوك الإيراني نتيجة الاتفاق النووي، إلا أنَّ الواقع أثبت عكس هذا التوقع، وعلى الرغم من عودة الدبلوماسية طريقاً للوصول إلى اتفاق يقيد البرنامج النووي الإيراني ضمن الإطار السلمي، إلا أن الإدارة الأمريكية ترى في هذا الاتفاق -إن تم التوصل إليه- أرضية لمتابعة المفاوضات حول البرنامج الصاروخي والسلوك الإيراني العدواني.
سرّعت واشنطن خطوات بناء الثقة في مسعى لعودة التفاوض فأعلنت رفع حركة أنصار الله اليمنية (الحوثي) من قائمة الإرهاب، وسحبت الطلب الذي تقدمت به إدارة ترامب لتفعيل العقوبات الأممية "سناب باك"، كما سمحت لبعض الدول بالإفراج عن أموال إيرانية مجمدة لديها.. قابلت طهران تلك الخطوات بالمزيد من الإصرار على رفع كافة العقوبات، وكذلك بالتأكيد على الحق السيادي لبرنامجها الصاروخي وعدم التخلي عن سلوكها الإقليمي، حسب تصريحات المرشد الأعلى "علي خامنئي"، حيث اعتبر أن البرنامج الصاروخي «أجبر أعداء إيران على مراجعة حساباتهم».. أما بالنسبة للسلوك الإيراني فقد أكد خامنئي "التزامَ طهران دعم حلفائها في الشرق الأوسط" كما اعتبر وجودها الإقليمي «ضرورة يجب أن تكون وسوف تستمر».
الحسابات الإيرانية
نتيجة الحسابات الانتخابية الداخلية طالب وزير الخارجية الإيراني السابق "محمد جواد ظريف" الاتحاد الأوروبي بوساطة تجمع الطرف الإيراني والأمريكي على طاولة المفاوضات، التي انطلقت بصورة غير مباشرة بدايةَ إبريل/ نيسان الماضي في العاصمة النمساوية "فيينا" وانتهت جلستها السادسة في يوليو/ تموز دون تحديد موعد الجلسة التالية، نتيجة رغبة طهران بمتابعة المفاوضات من قِبل الإدارة الجديدة التي سيشكلها الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي بعد تسلُّمه للمنصب مطلع أغسطس/ آب.
قبل حفلة تنصيب الرئيس الإيراني الجديد قامت طهران بالاعتداء على السفينة الإسرائيلية "ميرسر ستريت" قُبالة سواحل عُمان، في خطوةٍ فسرها البعض بأنها عملية ترمي طهران من ورائها مقايضة "البرنامج الصاروخي والسلوك الإقليمي" بأمن الخليج العربي وبحر العرب المهمين على التجارة الدولية، وهو تفسير تعززه المناورات الإيرانية التي تمارسها طهران لتُجنِّب نفسها تقديم تنازُلات حقيقية عن طريق رمي أوراق غير مكلفة سياسياً، كما هو الحال في قضية المحتجزين الأجانب ومزدوجي الجنسية، إذ صرّح مندوب إيران لدى الأمم المتحدة "مجيد تخت روانتشي" بالقول: «نحن مستعدون لتبادل شامل لجميع الأسرى المعتقلين مع الأمم المتحدة».
ينتمي الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" إلى تيار المحافظين الثوريين، وهو تيار يرى انحرافاً قد جرى في جسد النظام ويجب إصلاحه للعودة إلى قيم "ثورة 1979" والعمل على إتمام المرحلة الثانية للثورة وتصديرها ضِمن مبدأَيْ "الأممية الإسلامية وولاية الفقيه" وما يتضمنانه من مبادئ الاستقلالية ومواجهة الاستكبار، وهو إرث خميني لا يمكن القفز عليه حتى من قِبَل المرجع الأعلى للثورة ذاته، والذي قفز في الماضي على الشروط المطلوبة لولاية الفقيه، إلا أنه عاجز عن القفز على هُوّة العداء لأمريكا وقوى (الاستكبار) العالمية، لذا بقي متأرجحاً بين مبدأَيْ "لا صِدام ولا انفتاح" وهو ما يفسر فشل طهران بالانفتاح والاندماج مع المجتمع الدولي غداة الاتفاق النووي لعام 2015، ويعطي مؤشراً أيضاً على انسداد الأفق في وجه أي اتفاق جديد، في ظل تمسك واشنطن بمواقفها الناجمة عن مراجعة أخطاء الماضي ومحاولة إصلاحها على أرض الواقع، ضمن سياسة قائمة على مواجهة التهديدات الإيرانية في حزمة واحدة.
ضيَّقت العقوبات الأمريكية السبل في وجه حصول طهران على الموارد اللازمة لمتابعة مشروعها التوسعي، ورغم مراكمة طهران لأوراق قوة لا يُستهان بها، إلا أنّها بقيت عاجزة عن استخدامها بشكلٍ جدّي، لذا تلجأ طهران لممارسة ضغوطها على واشنطن من خلال الاندفاع بإنتاج الوقود النووي وخفض التزاماتها النووية، إضافة لرفع سقف طلباتها التي كان آخرها المطالبة بآلية التأكد من رفع العقوبات، وقبله المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بها جراء الانسحاب الأمريكي من خطة "العمل الشاملة" وكذلك بضمانات تحول دون انسحاب أي إدارة أمريكية لاحقاً من الاتفاق، عدا المطالبة بالرفع الكامل للعقوبات قبل بدء المفاوضات، وهذا ما عبَّر عنه "حسين شريعتمداري" ممثل المرشد الأعلى في صحيفة «كيهان» بالقول: إن الهيكل الثوري في حكومة رئيسي لن يقبل العودة إلى الاتفاق النووي سوى بإلغاء جميع العقوبات. كذلك ميّز الرئيس "رئيسي" في حوار معه بين التفاوض لأجل التفاوض، والتفاوض للوصول إلى اتفاق، في إشارة فسَّرها البعض بالرغبة بإعادة المفاوضات إلى نقطة البداية، وربما يرجح هذا التفسير تعيين "علي باقري كني" مساعداً لوزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، وبالتالي سيتولى قيادة المفاوضات بدلاً عن سَلفه "عباس عرقجي"، وقد اشتهر "باقري كني" بانتقاداته الشديدة لاتفاق عام 2015.
سيف ذو حَدَّيْنِ
يعتبر الاندفاع الإيراني لإنتاج الوقود النووي ورقة ضغط فعّالة، إلا أنها في ذات الوقت قد تؤدي إلى نتائج عكسية في حال اقتربت طهران من امتلاك القدرات النووية اللازمة لصناعة سلاح نووي، وهي النقطة التي ستفجِّر المفاوضات في ظل تمسُّك طهران بالحفاظ على مكتسباتها وإصرار واشنطن على العودة إلى قيود اتفاق 2015، كذلك الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي رفع الطموح الإيراني القائم على إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، وفي الوقت ذاته سيعمل الزلزال الأفغاني على تصليب الموقف الأمريكي نتيجة للانتقادات التي تعرضت لها إدارة بايدن نتيجة هذا الانسحاب.
التِّيه الأمريكي والترصُّد الإسرائيلي
يرتدي الرئيس الأمريكي "جو بايدن" قفازات أوباما لكنه يسير على خُطَى "ترامب" الذي خلَّف إرثاً عمل الرئيس "بايدن" على توظيفه ضِمن أوراق الضغط على طهران، فرغم التحول إلى الدبلوماسية لدى إدارته إلا أنها تتلاقى مع إدارة ترامب في إرادة الوصول إلى اتفاق نووي يكون أرضية لتوافُقات متتابعة خاصة "بالبرنامج الصاروخي والسلوك العدواني الإيراني" وهو ما بات يلقى الدعم الأوروبي للسياسة الأمريكية، لا سيما مع تحوُّل البرنامج الصاروخي الإيراني من العقيدة الدفاعية إلى الهجومية، مما يجعل القارة العجوز، وإسرائيل بطبيعة الحال، في مرمى هذه الصواريخ، لذا فإن أي عودة مجانية من قِبَل واشنطن لاتفاق نووي -يتغاضى عن السلوك الإيراني والمشروع الصاروخي- ستؤدي إلى عواقب وخيمة وتفتح الطريق أمام طهران لتكريس تحوّل جذري في المنطقة تسعى من خلاله للانتقال من دولة إقليمية متوسطة إلى دولة تعديلية في الإقليم، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وحروب الوكالة في المنطقة، وهذا ما لا ترغب واشنطن برؤيته، فإن كان صحيحاً أن واشنطن ترغب ببقاء طهران قوة إقليمية تحقق لها مصالحها الإستراتيجية في الإقليم، إلا أنّ واشنطن ستقف عائقاً أمام مضاعفة طهران لقوتها ومركزها.
كما تم إدخال إسرائيل للقيادة الأمريكية الوسطى التي تقع المنطقة وأمنها ضِمن مهامها، في خطوة تطبيعية غير رسمية بعد اتفاقات التطبيع الرسمية التي وقعتها بعض الدول العربية مع إسرائيل، وهو ما يُوجِد أرضية قد يتم العمل عليها لبناء تحالف إقليمي يجمع العرب وإسرائيل في مواجهة إيران.
وأخيراً انضمت تل أبيب إلى المسار الأمريكي الهادف للوصول لاتفاق مع طهران، وجاء الموقف الإسرائيلي مستغرباً من خلال تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي "يائير لابيد" عن إمكانية تعايش تل أبيب مع اتفاقٍ نووي، وقد يكون للتطمينات الأمريكية -التي تصبّ في أن العودة للاتفاق لن تتم من دون ثمن من قِبَل طهران- دور في هذا التحول الإسرائيلي، إضافةً إلى ما أبداه الرئيس بايدن في لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي "نفتالي بينت" من التزام أمريكا بأمن إسرائيل وحديثه عن مسارات أخرى في حال فشل المسار الدبلوماسي للوصول لاتفاق، دون التصريح عن ماهية هذه المسارات، مما أعاد العلاقات الأمريكية الإسرائيلية إلى مسارها الطبيعي بعد الانحراف الذي مارسته حكومة نتنياهو في جانب إخراج القضايا الخِلافية بين الطرفين للعلن، واللعب في الساحة الداخلية الأمريكية على الوتر الجمهوري/ الديمقراطي.
يعتبر ضبط العلاقة الأمريكية الإسرائيلية ورقة ضغط مهمة لواشنطن في مواجهة طهران، كما يساهم في منع انزلاق الصراع الإيراني الإسرائيلي إلى حرب مفتوحة من خلال استغلال تل أبيب للضوء الأخضر الممنوح لها أمريكياً لمهاجمة المصالح والميليشيات الإيرانية في المنطقة دون ضوابط. مع ذلك ترى تل أبيب أنَّ أمنها لا يجب أن يُترك لأحد رغم التنسيق القائم بين تل أبيب وواشنطن من جهة، وتل أبيب وموسكو من جهة أخرى، لذا رصدت إسرائيل زيادة في ميزانيتها للعمليات الخاصة بمجابهة إيران ضِمن خطة "القتل بالتجريح" الرامية لاستمرار ضرباتها للمصالح الإيرانية وتنويعها، كذلك ألمَحَ الوزير لابيد إلى الخطة "ب" والخطة "ج" حين حديثه عن إمكانية التعايش مع الاتفاق، وغنيّ عن البيان قدرة تل أبيب على تنفيذ الخطة "ب" بمفردها، غيرَ أنَّ الخطة "ج" بحاجة إلى الدعم الأمريكي والأوروبي، وهو دعمٌ لن يكون محظوراً في حال فشل المفاوضات في "فيينا" كما أنه لن يلقى معارضة جدّية من موسكو وبكين رغم استفادة الأخيرتين من الصراع المفتوح بين واشنطن وطهران في المنطقة، وتوظيفهما لهذا الصراع في خدمة مصالحهما المتناقضة مع المصالح الأمريكية، وفي الصراع القائم بين واشنطن وكل من موسكو وبكين على الساحة الدولية، إلا أنَّ التنافس القائم بين موسكو وطهران في عدد من القضايا كسوريا وبحر قزوين، إضافة إلى الرفض الصيني والروسي لتحوّل الجارة الإيرانية إلى دولة نووية سيجعلها ورقة مبيع في حال الدفء في العلاقات بين العمالقة الثلاثة أو الثنائية منها.
لم تعد القدرات النووية لإيران، من وجهة نظر أمريكا، الملف الوحيد الذي يجب التفاوض عليه، فالأخيرة تقدم حزمة كاملة يجب على طهران التنازل عن طموحاتها فيها، بما يشمل القدرات الصاروخية والسلوك في الشرق الأوسط، وبالمقابل تقدم إيران حزمة ملفات أيضاً تتضمن رفع العقوبات أولاً وتعويض الضرر الاقتصادي الذي لحق بها وتقديم ضمانات بعدم التراجع عن أي اتفاق، لكن الحقيقة أن ما تريده إيران هو اعتراف الجميع بها كقوة معدلة والتعامل معها على هذا الأساس، وهو أمر لا يبدو أن الجميع -بمن فيهم حلفاؤها الروس والصينيون- فضلاً عن الغرب والعرب وإسرائيل، منفتح على تقبُّله حتى الآن.