قد تكون الحرب السورية واحدة من أكثر الصراعات توثيقاً في التاريخ، لكن الإفلات من العقاب يظلّ القاعدة الأساسية بالنسبة إلى أولئك المسؤولين عن الجرائم الدولية.
فقد اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تموز/يوليو قراراً يدين بشدّة "استمرار استخدام حالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي في الجمهورية العربية السورية… التي نُفِّذت بشكل منظّم، ولا سيّما من قِبَل النظام السوري".
وقد تحدّث السفير البريطاني لدى الأمم المتحدة في جنيف -وهو الذي قدّم القرار لاعتماده- عن "أفعال وحشيّة متعمَّدة لا توصف"، في إشارة إلى معرفة النظام بمصير المختفين، لكنّه رفض بشدّة مشاركة هذه المعلومات مع عائلاتهم.
صحيح أنّها كلمات صادقة وقوّية، لكنّها لن تفعل الكثير لتخفيف معاناة الضحايا وأقاربهم، ولن تغيّر الوضع على الأرض. فبعد عقد من اندلاع الحرب الأهلية السورية لا يزال نظام الأسد في السلطة بقوّة، وتمثّل الأعمال البربرية التي يعاني منها الشعب السوري أحد خطوط الصدع الكبرى في عصرنا.
اختزال البشر في أرقام
من الصعب فهم الحجم الهائل لحالات الاختفاء القسري في سوريا، فوفقاً للتقديرات الأخيرة، منذ عام 2011م اختفى أكثر من 150 ألف سوري أو احتُجزوا احتجازاً تعسّفياً(من إجمالي عدد السكان البالغ حوالي 17 مليوناً)، معظمهم من قِبل النظام. وعلى سبيل المقارنة، خلال الديكتاتورية العسكرية الأرجنتينية من 1976م إلى 1983م كان العدد الإجمالي التقديري للمختفين 30.000 شخص(في حين كان عدد سكّان الأرجنتين حوالي 27 مليون نسمة في ذلك الوقت).
عِلاوة على ذلك، من المعروف أن النظام يعذّب بوحشيّة أولئك الذين يختفون داخل السجون السريّة للنظام على نطاق ممنهج. فمن أكثر المواقع شهرة هو سجن صيدنايا العسكري على بعد 30 كيلومتراً شمالي دمشق. وقد أعادت منظّمة العفو الدولية لحقوق الإنسان وفريق من المهندسين المعماريين في الطبّ الشرعي من جامعة غولدسميث في لندن أعادت بناء مجمّع يحاكي سجن صيدنايا لعرضه على الرأي العام العالمي عام 2017م. ولا توجد صور حديثة؛ لذلك كان عليهم الاعتماد حصرياً على ذكريات المعتقَلين السابقين.
إنّ الصورة التي تظهر مروّعة حقّاً: فالسجناء يبقون في الظلام والصمت المطلق.. يتعرّضون للضرب بطريقة روتينية.. ويموت الكثيرون من الجوع أو من نقص الرعاية الطبية.. هناك اكتظاظ شديد؛ ممّا يعني أنّه قد يُحشَر ما يصل إلى 50 شخصاً في زنزانة مساحتها تسعة أمتار مربَّعة. و تشير التقديرات إلى أنّه بين عامَي 2011م و 2017م فقط حُكم على ما يصل إلى 13000 شخص حكماً تعسّفياً بالإعدام وأُعدموا في صيدنايا.
ومنذ آب/أغسطس 2013م، عندما انشقّ مصوّر عسكري يُدعى قيصر وهرّب أكثر من 50000 صورة خارج سوريا أصبحنا نعلم أنّ النظام يوثّق جرائمه بدقّة.
الجثث التي صُوّرت من قِبل قيصر -السجناء الذين ماتوا في الأسر- خُصّصت ثلاثة أرقام لهم: رقم يشير إلى مرفق الاحتجاز حيث احتجزوا، ورقم المحتجَز من المنشأة المذكورة، ورقم الوفاة صادراً عن الطبيب الشرعي الذي فحص الجثّة.
في غضون ذلك، تشير مئات الآلاف من الوثائق الحكومية المهرَّبة من سوريا إلى أنّ بشار الأسد نفسه يشرف على سلسلة قيادة الدولة للتعذيب والاختفاء القسري.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ هذه ليست الانتهاكات الجسيمة الوحيدة التي ارتكبها النظام: ففي حزيران/ يونيو خلصت منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية(OPCW) في إحاطتها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى أنّ قوّات الأسد استخدمت على الأرجح أسلحة كيميائية في 17 مناسبة في الأقلّ. وانتقدت جماعات حقوقية النظام وحلفاءه الروس لتعمّد قصف المستشفيات والمدارس والبنية التحتيّة المدنيّة الأخرى في المناطق التي يسيطر عليها المتمرِّدون، في انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي.
لا يمكننا القول أنّنا لا نعرف
لقد وُصفت الحرب السورية بأنّها "الصراع الأكثر توثيقاً في التاريخ". زيادة على قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المخصّص للمختفين في سوريا، فإنّ لجنة التحقيق الدولية المستقلّة بشأن الجمهورية العربية السورية والآلية الدولية المحايدة والمستقلّة(IIIM) -وهما الهيئتان اللتان أنشأهما مجلس حقوق الإنسان والأمم المتّحدة العامة- قد جمعتا أدلّة كثيرة عن انتهاكات الحقوق، والجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا(وفقاً لتفويضها، لغرض "تسهيل وتسريع الإجراءات الجنائية العادلة والمستقلّة").
كما قامت مجموعات الضحايا والنشطاء ومنظمات المجتمع المدني بعمل مهمّ في توثيق الانتهاكات وإبقاء قضية المختفين على جدول الأعمال الدولي.
لكن هذه الجهود أسفرت عن نتائج محدودة؛ ففي ألمانيا، كانت هناك محاكمات جنائية لأشخاص متورّطين في التعذيب الذي تمارسه الدولة السورية، وفي أيلول/سبتمبر من العام الماضي أعلنت الحكومة الهولندية أنّها سترفع قضية ضدّ النظام السوري أمام محكمة العدل الدولية(التي تنتمي إليها سوريا) بشأن انتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب.
ومع ذلك، ومع استمرار الدعم الروسي والإيراني للأسد، فمن غير المرجَّح أن يتغيّر سلوك النظام، أو أن تصل العدالة إلى أعلى مستويات القيادة السياسية، بعبارة أخرى أولئك الذين يتحمّلون المسؤولية الأكبر عن الجرائم الدولية.
فقد حوكم قادة المجلس العسكري الأرجنتيني بعد عودة البلاد إلى الديمقراطية في عهد الرئيس راؤول ألفونسين، ويحتفل الأرجنتينيون بذكرى الانقلاب في 24 آذار/مارس من كلّ عام باسم اليوم الوطني لذكرى تحقيق العدالة.
وبالطريقة التي تسير بها الأمور الآن، سوف يمرّ وقت طويل قبل أن يتمكّن السوريون من الحداد علناً على مصير أحبّائهم وبلدهم.
حتى ذلك الحين، سيبقى 150.000 من المختفين في سوريا وعدد لا يحصى من الذين يتعرّضون للتعذيب والقتل وصمةَ عارٍ في عصرنا على جبهة النظام الدولي القائم على القواعد والالتزام العالمي بحقوق الإنسان.
المصدر: الديمقراطية المفتوحة / ترجمة: عبد الحميد فحام