بعض المُزايِدين على الثورة السورية دأبوا على ترديد عبارة (ما كنا نعرف الطائفية قبل الثورة)… فهؤلاء حتماً لم يكونوا يعيشون الواقع على حقيقته… وبالتالي هم كانوا مغيَّبين إمَّا جهلاً بالتمييز أو مشاركة بذاك الواقع الأليم… وهؤلاء كُثر ممن أُوتوا موهبة اللعب على كافة الحبال… ونرى معظمهم -بل جميعهم- لا يزال في صفوف النظام يقتلون شعبهم برضى وقناعة منهم أنه ليست تلك ثورة بل مجموعة من العصابات المسلحة المدفوعة من الخارج (كما لقنهم النظام) تعمل على خراب سورية…
أنا شخصياً أقول ومعي جُلُّ مَن عايش النظام في جحره -منهم من لا يزال هناك ويخدم الثورة ومنهم من خرج مثلي- أقول: على مدى اثنين وثلاثين عاماً من خدماتي في سلك الشرطة لدى النظام كنت أعاني ومنذ بداياتها من النعرة الطائفية حيث المعاملة الشخصية والجماعية تختلف عنا لأقراننا من طائفة النظام أو أصحاب الدعم الشخصي أو المادي…
تجلت تلك المعاملة بالفرق الواضح في المزايا والمكاسب المكتسبة المشروعة -المادية منها والمعنوية- وحتى في المهام التي توكل لنا وكذلك المواقع والمناصب… قد يسأل سائل: هذا يأتي حسب الكفاءة… فأجيبه: لا لا لا لو يكلف نفسه بإجراء مقارنة بسيطة لوجد غير ذلك… وقد يسأل سائل: أنت كنت مكتسباً… فأجيبه: نعم، ولكن فقط الشيء اليسير من حقوقي وبقدراتي على المنافسة المعرفية ومطالباتي المتكررة بحقوقي مع نوع يسير من سلاطة اللسان تجاه من أعرف أنني قادر على ذلك تجاهه، واتخاذ مبدأ التقية مع مَن لا أستطيع مقارعته، حفاظاً مني على الوظيفة التي لا مورد لي سواها…
رأينا وسمعنا كيف كانت تتخذ بحق إخوتنا صكوك الصرف والتسريح من الوظيفة لمجرد خطأ بسيط قد تكون عقوبته التنبيه غالباً، أو في أبعد تقدير الحبس المؤقت، بينما لا يتخذ أي إجراء بحق مَن تعفنت سيرته وغُمِرَ بالفساد وإن اتخذ إجراء واحداً مقابل العشرات فيكون ذلك لذر الرماد في العيون ويكون المتخَذ بحقه الإجراء لا يمكن التستر عليه أكثر من ذلك…
رأينا وسمعنا ما فعله (الوزير المنتحر على طريقة نظام الأسد) غازي كنعان خلال عامَيْ 2004 / 2005 م من تصفيات وتسريحات تعسفية وتطويع دورات خاصة جميعهم من طائفته… وبعد نحره بأيام استدعيت من قِبل آصف شوكت ليسألني عن سبب الضغوط التي مارسها غازي كنعان ضدي ومحاولته مراراً تسريحي -إلاَّ أنني كنت محظوظاً حينما أجد من يسمع صراخي ويتحمل سلاطة لساني على الملأ وفي السر- وبعدما شرحت له الأسباب ومنها اتهامي بنهج الطائفية في ممارسة عملي، مع إبراز الوثائق المثبتة لما قلت، بعد ذلك قال لي آصف شوكت بالحرف الواحد: لعن الله روح غازي كنعان، ومع الأسف أنه صفى كثيراً من الضباط بذريعة الطائفية ولم ننتبه له إلاَّ متأخرين… فلماذا لم يستدعني آصف حينما كان غازي حيّاً؟؟؟!!!
مثال آخر: حينما اتخذ اللواء علي حمود قراراً بتعييني مديراً لنادي ضباط الشرطة، ووصل الأمر للواء سمير مخلوف رئيس فرع أمن الشرطة آنذاك قال جملته الشهيرة على مسامع الحاضرين بمكتبه: (يا حبيبي بدوي وعين حوراني مدير نادي لذلك راح نشوف الحضارة من…. القرد) فكانت تلك الجملة حافزاً لنثبت له أننا أصحاب حضارة أكثر منه.
لكن ومن خلال ثورتنا المظفَّرة اكتشفنا جلياً أنه وكما قيل في المثل الشعبي: (ما ألعن من سيدي غير ستّي) آصف وغازي وجميل وفلان وعلان وكافة القرود هم ألعن من بعضهم البعض وينهجون نفس النهج الذي تربوا عليه ولديهم توجيهات بممارسته…
فلنكفَّ ونلغِ أسطوانة (ما كنا نعرف الطائفية قبل الثورة) من قاموسنا وثقافة ثورتنا ولنعلم أن الطائفية نهج وممارسة طُبقت في سورية من قِبل النظام الحاكم منذ أعقاب حركة 22 شباط 1966م الحركة التي قادها العلويان صلاح جديد وحافظ الأسد التي أفضت بمباركة من السني أحمد السويداني رئيس أركان الجيش السوري آنذاك إلى تسريح ما نسبته 80% من الضباط السُّنة، وانطبق ذلك على كافة الضباط من أبناء حوران، وجيء بدلاً عنهم بعلويين طُوِّعوا خصيصاً معظمهم غير لائق لأن يكون ضابطاً… واستمر النهج على هذا المنوال منذ ذلك الحين بل وتزايدت وتيرته بعد الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد عام 1970م ، وبلغت الطائفية أَوْجَهَا مستمرة فيما بعد أحداث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وتجلت للعالم بأسره مع اندلاع هذه الثورة ومع دخول العناصر الإيرانية الشيعية وميليشيا حزب الله اللبناني، ليعلنوها صراحة: طائفية… طائفية… طائفية.