المصدر: جيروزاليم بوست ترجمة: عبدالحميد فحام
لقد استمرت قمة تشرين الأول/أكتوبر بين نفتالي بينيت مع فلاديمير بوتين لساعات مطوّلة حيث كانت مدتها غير المقررة البالغة خمس ساعات تعني أن رئيس الوزراء لم يتمكن من العودة إلى إسرائيل قبل يوم السبت وظلّ عالقاً في "سوتشي" حتى ليلة السبت.
ومع ذلك فقد قضى بينيت مع الرئيس الروسي في المنتجع المُطلّ على البحر الأسود وقتاً جيداً، فهي كانت من بين الاجتماعات الأكثر أهمية التي عقدها رئيس الوزراء منذ توليه منصبه في حزيران/ يونيو.
لقد كان بينيت وبشكل أساسي بحاجة إلى الحفاظ على حرية إسرائيل في العمل في سورية. فمنذ اندلاع الحرب السورية قبل عقد من الزمان، وما تلا ذلك من تنامي الوجود الإيراني، استهدف الجيش الإسرائيلي بشكل متكرر المواقع الإيرانية ومواقع وكيله حزب الله.
فكانت ذريعة طهران للتدخل هي تعزيز حليفها بشار الأسد، لكن أهدافها كانت أكبر تتمثل في توسيع دائرة نفوذها، وتحويل سورية البعثية في نهاية المطاف إلى تابع إيراني، وجعلها رأس حربة يمكن من خلالها تهديد "النظام الصهيوني".
وقد قررت إسرائيل ألا تكتفي بمراقبة الحشد الإيراني المتزايد، بل قررت تبني سياسة وقائية نشطة.
ويعكس منطق الإستراتيجية الإسرائيلية منطق الولايات المتحدة في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي خضعت للدراسة بشكل كبير، عندما أعلن الرئيس جون كينيدي أن مجرد وضع الصواريخ السوفيتية في نصف الكرة الغربي كان استفزازاً غير مقبول، وذلك بصرف النظر عن قرارهم الفعلي باستخدامها. ومن وجهة نظر تل أبيب، كان انتشار الإيرانيين بعيداً عن بلادهم، والقريب جداً من إسرائيل، في حدّ ذاته أمراً غير شرعي، مما استلزم رداً إسرائيلياً قوياً.
لكن في شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2015 ظهر عامل جديد: حيث اتخذ الكرملين قراراً بالتدخل المباشر في سورية بقواته الخاصة لدعم الأسد. فأصبح الإيرانيون والروس يقاتلون في نفس الخندق في الحرب الدائرة في سورية، وينسقون جهودهم العسكرية. وفي ظل هذه الظروف، لم يعد من الممكن الاستنتاج بأن إسرائيل ستظل قادرة على الاستمرار في ضرب المواقع الإيرانية دون إثارة غضب الشريك الأكبر لطهران.
وقد أدرك رئيس الوزراء آنذاك، بنيامين نتنياهو، أن دور روسيا المعزز في سورية يغير قواعد اللعبة. وبشيء من الحكمة، اتخذ القرار الذي يبدو غير معهود بعدم الانضمام إلى الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى في انتقاد قرار الكرملين علناً. وبدلاً من ذلك، سافر نتنياهو على وجه السرعة إلى موسكو لعقد لقاء وجهاً لوجه مع بوتين، حيث توصل بنجاح إلى سلسلة من التفاهمات التي حمت حرية إسرائيل في التصرف.
وقال نتنياهو لشبكة CNN عقب القمة: "ذهبت إلى موسكو لأوضّح أنه يجب علينا تجنّب الصدام بين القوات الروسية والقوات الإسرائيلية في سورية وقمت بتحديد أهدافي بأنه يتوجب عليهم حماية أمن شعبي وبلدي.
فلروسيا أهداف مختلفة لكن لا ينبغي أن تصطدم أهدافنا مع أهدافهم".
كان تجنُّب مثل هذا الصدام -"عدم التضارب" بلغة الخبراء- أمراً حاسماً في حد ذاته، لكن حوار رئيس الوزراء مع الزعيم الروسي كان له تداعيات أكبر.
فمع انتصار نظام الأسد في حربه على شعبه، كان من الضروري بدء محادثة مع الكرملين حول التطورات في سورية ومستقبل ذلك البلد الذي مزقته الحرب، وهو تبادل سعى إلى التقارب بين إملاءات الأمن القومي لإسرائيل ومصالح روسيا التاريخية في الشرق الأوسط (يعود تاريخه إلى أيام القياصرة).
وكان مثل هذا النقاش ممكناً؛ لأنه على عكس إيران، فإن روسيا ليست معادية لإسرائيل بشكل علني. وعلى العكس من ذلك، أعلن بوتين صداقته مع الشعب اليهودي والدولة اليهودية، وهو تضامن أكده خلال زياراته الرسمية المختلفة إلى إسرائيل (كان آخِرها في يناير 2020 في الذكرى الخامسة والسبعين لتحرير أوشفيتز).
وقد أدّى الحوار الفعّال بين نتنياهو وبوتين إلى خلق وضع أصبح فيه أقربُ حليفةٍ مقرّبةٍ لأمريكا -والتي هي إسرائيل- صاحبةَ الخطاب الأكثر حميميةً مع روسيا. وفي شهر أيار/ مايو من عام 2018، كان نتنياهو ضيف الشرف لبوتين في موكب يوم النصر السنوي في موسكو (الزعيم الغربي الوحيد في الحدث).
وبينما كان هناك ضغوط في دول أوروبا الشرقية ما بعد الشيوعية لإزالة التماثيل التي تخلد ذكرى الجيش الأحمر، فإن إسرائيل تقوم بفخر بإقامة مثل هذه الصروح التذكارية، كما حدث في "نتانيا".
فهذا أكثر بكثير من مجرد مظهر من مظاهر السياسة الواقعية الإسرائيلية، لكنه يعكس اعترافاً حقيقياً بالدور الذي لا غنى عنه للجيش الأحمر في هزيمة ألمانيا النازية.
إن العلاقات المميزة بين تل أبيب وموسكو لا تروق للجميع بكل تأكيد. فعندما عملتُ سفيراً لإسرائيل في لندن، كان نظرائي في دول البلطيق يشيرون إلى عدم الارتياح إزاء ارتباط إسرائيل الوثيق مع الروس. وبعد محاولة الاغتيال في آذار/ مارس من عام 2018 ضد سيرجي سكريبال في سالزبوري بإنجلترا، كان لدى البريطانيين تحفُّظات أيضاً. وفي أعقاب ذلك الحادث، طردت بريطانيا 23 دبلوماسياً روسياً وطلبت من أصدقائها في جميع أنحاء العالم أن يحذوا حذوها. فقامت ما يقرب من 30 دولة بفعل ذلك، وتمّ طرد 153 دبلوماسياً روسيّاً من جميع أنحاء العالم.
واستدعت دول أخرى، من المترددين في طرد الدبلوماسيين الروس، سفراءها من موسكو. لكن إسرائيل لم تفعل ذلك.
وعندما أعرب المحاورون البريطانيون عن أسفهم على "افتقار إسرائيل للتضامن". أود أن أشير إلى أنه على الرغم من سوء العلاقات بين المملكة المتحدة وروسيا بعد سالزبوري، فإن فرص الجيشين البريطاني والروسي في إطلاق النار على بعضهما بعضاً ظلت ضئيلة. هذا بينما كانت الهجمات الليلية المنتظمة التي يشنها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف إيرانية في سورية تحدث غالباً على مقربة مباشرة من المواقع العسكرية الروسية الحليفة.
فمن وجهة نظر إسرائيل، كان من الأهمية بمكان الحفاظ على خطوط اتصال صحية مع موسكو. (وقد امتنعت اليابان، مثل إسرائيل، العضو الأساسي في التحالف الغربي، عن طرد الدبلوماسيين الروس بسبب المحادثات الحسّاسة الجارية حول مستقبل جزر "الكوريل" المتنازَع عليها).
وحتى منتقدو بنيامين نتنياهو ينسبون إليه الفضل في تعامُله بذكاء مع علاقات إسرائيل مع روسيا. فقد عرضت صحيفة فاينانشال تايمز، التي لا تُعرف عادةً بالإشادة برئيس الوزراء السابق، العلاقة "الإيجابية" بين نتنياهو وبوتين التي "تبرز على الساحة العالمية"، حيث قام الزعيمان "بتشكيل تحالُف غير متوقع" "أفاد كِلا الزعيمين" عسكرياً ولم يتغيّر من حيث نتيجة تعدُّد المواقف من الحرب السورية".
ووَفْقاً لذلك، جاء الوزير زئيف إلكين مرافقاً لـ بينيت إلى "سوتشي". وعلى الرغم من دعوته ظاهرياً لتقديم ترجمة عبرية روسية فعّالة، إلا أن حضور الوزير المولود في أوكرانيا كان له هدف أسمى. فقد شارك إلكين في لقاءات نتنياهو العديدة مع بوتين، وكان بينيت يشير من خلال وجود إلكين إلى رغبة تل أبيب في الحفاظ على التفاهمات الإسرائيلية الروسية التي تحققت في عهد سلفه.
ومنذ قمة تشرين الأول/ أكتوبر كانت هناك تقارير تفيد بحدوث ضربات إسرائيلية جديدة ضد أهداف في أنحاء "الجولان" وفي منطقة دمشق. ويشير هذا إلى أن التفاهمات الإسرائيلية الروسية الحاسمة التي تم التوصل إليها منذ عام 2015 لا تزال ساريةً، وهذا -بلا شك- بشرى سارّة للطيارين الإسرائيليين الذين يقومون بمهمات طيران فوق سورية.