”نداء بوست“ – حوارات – حاوره أسامة آغي:
القضية السورية لم تعد قضية صراع داخلي بين نظام مستبد وشعب ثائر، بل غدت رهينة لتنازع القوى الإقليمية والدولية، وهذا ما جعل منها قضية شائكة ومتشابكة ومعقدة، تحتاج إلى مراجعات تقوم بها قوى الثورة والمعارضة ونخب المجتمع السوري الممزق، ولعل موقف المكونات الطائفية والدينية من الثورة يثير تساؤلاتٍ عن الأسباب الكامنة وراءه.
نداء بوست وضع أسئلته أمام السيد نبيل قسيس، الذي يشغل مركز سكرتير حزب النداء الوطني الديمقراطي، بغية إضاءة المشهد السوري عبر مراحله، فكان هذا الحوار.
السوريون فقدوا قرارهم
”نداء بوست“: مرّ على تفجّر الثورة السورية أكثر من عشر سنوات مرّت خلالها بمراحل متعددة. ومن هذه المراحل خسارة السوريين (قوى الثورة والمعارضة ونظام الاستبداد) قدرتهم على إدارة صراعهم بعد انخراط قوى إقليمية ودولية فيه.
كيف يستطيع السوريون استعادة قرارهم والتأثير في تدخل القوى المذكورة بحيث يكون الحل السياسي لمصلحة الشعب السوري بنسبة كبيرة؟
هل الدعوة لمؤتمر سوري جامع تحضره كل المكونات عبر تعبيراتها وممثليها ممكنة وتمثّل طريق حل؟
يبدو أن السوريين لم يفقدوا قرارهم الوطني فحسب، بل أن الأمر وصل إلى مرحلة ارتهان للخارج، وقعت فيه قوى الصراع الداخلي، وهذا ما جعلنا نسأل السيد نبيل قسيس عن رأيه بالوضع السوري الحالي، فقال:
"لقد كانت خسائر السوريين من مطالبي التغيير كبيرة جداً بعد مضي عقدٍ من الزمن، وعلى عديد من الأصعدة، العسكري والسياسي والتفاوضي، ولكن أفدحها كان فقدانهم لقرارهم السوري، فالناظر الى مآلات حراك السنوات الاحدى عشرة الماضية، يرقب بيسر حالة من التشظي المريع، ليس بين مؤسسات الثورة الرسمية وغير الرسمية، بل تشظياً داخل المؤسسة الواحدة وتحديدا تلك المناط بها أن تكون ممثلاً لجميع السوريين.
ويضيف قسيس: "إن حالة من استلاب القرار وارتهان المؤسسة لإرادات غير سورية، أدى الى عزوف السوريين عن استكمال حلمهم في تحقيق الدولة المنشودة، وتراجع اهتماماتهم الى حدود الهم المعيشي، وفقدان ثقتهم بشكل مطلق بمؤسسات الثورة الرسمية (ائتلاف، تفاوض، دستورية)، لقد اصبحت قضية السوريين رهينة لقوى اقليمية ودولية لن تراعي إلا ما توافق مع مصالحها ورؤاها للمنطقة، إضافة ان هذه الأخيرة في حالة من تضارب مصالح تحول دون الوصول الى اي اتفاق كان، من شأن السوريين ان يستثمروا به سياسياً.
لكن قسيس يعتقد أنه مع استعادة القرار الوطني السوري فيقول في ذلك: "لقد اضحت محاولة استرجاع القرار السوري السليب مهمة وطنية قبل أن تكون مهمة ثورية، وكون قوى التغيير من أفراد ومؤسسات هم من يتقدم السوريين في نداء تحقيق احلامهم في دولة مواطنة ديمقراطية، فقد اضحى عليهم لزاماً، أن لا يتوانوا عن اجتراح الحلول لتحقيق ذلك.
ويرى قسيس "إن تشكيل مجموعة سورية ضاغطة ومتحركة في المحيط السوري أولاً، وفي منفاه المترامي، ستكون الخطوة الصحيحة الأولى لجمع شتات ثقة السوريين ببعضهم البعض، ومن ثم الحشد لاستجلاب دعمٍ مالي سوريٍ محضٍ مستنداً لتلك الثقة".
مضيفاً أن هذا المال: "سيكون الخطوة الصحيحة الثانية، لمنع اي ارتهان لممول اجنبي، ولتعزيز ثقة الشارع السياسي وجمهور الثورة بممثليه الجدد المرتقبين.
ويطرح قسيس رؤيته للخلاص من سوء الأوضاع السورية فيقول: "إن مؤتمراً سورياً ثورياً جامعاً يشكل البداية التي لابد منها لتجديد عهد الثورة، ولكن لن يكتب النجاح له، إن سعينا للحشد له وإطلاقه ضمن نفس البيئة وتحت ظل نفس الظروف".
النظام يلعب على التناقضات
”نداء بوست“: ثبت بالملموس أن النظام الأسدي يناور للتملص من استحقاقات القرار الدولي 2254 وتحديداً بصياغة دستور جديد وافق هو رسمياً على الانخراط بجلسات التفاوض حوله. ما حدود قدرة النظام على الاستمرار بهذا التملص؟ وهل تعتقدون أن الزمن يعمل لصالح تملصه أم لمراكمة الاعباء عليه؟
وحول سؤالنا عن تملّص النظام من القرار 2254، يقول قسيس: "لقد أختبر معارضو النظام التاريخيون بنية هذا النظام منذ عقود طويلة، ولم تُطلق عبثاً عبارة تقول "إن هذا النظام عصيٌ عن أي تغيير".
مضيفاً: "لقد بنى نظام الأسد هيكله الاستبدادي بحيث تصبح جميع روافعه مرهونة ببقاء الرأس، ويبدو أن نظام الاسد كان قد قرأ تجارب الاستبداد بعمقٍ كافٍ يمكنه من تحصين نفسه، بحيث يصبح سقوطه مرهونا بسقوط الدولة برمتها.
ويرى قسيس: "إن نظام الأسد يدرك تماما إن البدء بعملية تنازل ولو بمستواها الرمزي، سيكون الخطوة الاولى له للسير نحو الهاوية، لذا سيكون من المستغرب، لو استجاب النظام ولو رمزياً لمتطلبات القرارات الدولية".
ويعتقد قسيس: أن نظام الأسد الأب بنى مدرسة محنكة، تجيد اللعب على التناقضات الدولية، وها هو نظام الابن وهو الوارث لتلك المدرسة، يتابع بنفس مهارات سلفه، اللعب ببهلوانية متقنة على حبال تلك التناقضات والتي زادت وتيرتها بعد اندلاع ثورة السوريين".
ويضيف: "أما وجود لجنة دستورية للنظام داخل حلبة المفاوضات لصياغة دستور جديد، فلم تحدث إلا عندما توقف تضارب الرؤى عند اللاعبين الدوليين من الطرفين، وفي هذا الحيز بالذات، ورغم ذلك، فإن نظام الاسد قد صنع دعايته مسبقاً للتملص من اي التزام، فيما لو دفعت له لجنته الدستورية، وذلك عبر تسميتها باللجنة الوطنية وليس الرسمية".
ويعتقد قسيس وهو سكرتير حزب النداء الوطني الديمقراطي: "إن أعباء النظام ستستمر بالمراكمة الى ان تتحول سوريا الى دولة مارقة بأسوأ الأحوال، أسوة بنظام كوريا الشمالية، وهو ما سيزيد من معاناة السوريين فقط لا غير". لكنه يضيف: "وطالما لم يصل خلاف الدول الداعمة له، فيما بينهم الى الحد الحرج (روسيا، ايران)، فإن قراراً بإزاحته أو ممارسة الضغط الحرج عليه بأقل تقدير لن يحدث، والى ذلك الحين فإن واجباً على السوريين أن يجتهدوا لإيجاد أذكى الطرق لزيادة الاثقال على هذا النظام، وكسب ثقة سوريي جغرافيته، بأحقية التمرد عليه، وهذا هو المأمول المتبقي الوحيد.
ركيزة الاستبداد في دستوره
”نداء بوست“: لو طلب منكم كحزب سياسي، أن تضعوا تصوراً لتحويل المفاوضات إلى فعل منتج للدستور، وتعرفون أن ميزان القوى هو من يحدّد ويفرض على النظام الانخراط بمفاوضات جدية ومنتجة.
كيف يمكنكم تغيير ميزان القوى بين قوى النظام وقوى الثورة والمعارضة؟ ما الوسائل والأدوات التي تخلخل هذا الميزان لمصلحة الانتقال السياسي وصياغة دستور جديد تنتفي منه أي امكانية لولادة الاستبداد أو إعادة انتاجه؟
يرى قسيس أنه: "رغم إدراك حزبنا السياسي (حزب النداء الوطني الديمقراطي)، أن ركيزة الاستبداد في سوريا ذات جذر دستوري، يمنح رأس السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة، أشبه بصلاحيات كسرى الفرس، وأن تغوّل الأجهزة الأمنية في الحياة العامة ناتجة عن خلل دستوري، إضافة الى محكمة دستورية رهينة ومرتهنة لرأس السلطة التنفيذية".
ويضيف "مما يعني أن بناء دولة ديمقراطية لا يمكن له ان يكون ناجزاً إلا من خلال صياغة دستور جديد يلبي مطلبها، إلا أننا نفرق ما بين العملية الدستورية الجارية اليوم، وما بين دستورٍ مستحقٍ للدولة الديمقراطية المأمولة، تتم صياغته خلال مرحلة الانتقال السياسي".
ويتابع قسيس حديثه فيقول: "كما أننا ندرك تماماً أن العملية الدستورية اليوم، جاءت نتيجة تخاذل المجتمع الدولي، وضبابية مواقفه، التي منحت حليف النظام الرئيسي "روسيا" حق السبق لإيجاد حل سياسي، يحفظ لها مصالحها في المنطقة وتحديداً في سورية".
ويعتقد قسيس أنه: "لم يكن أمام السوريين، ونتيجة لترهل مؤسساتهم وارتهانها، إلا الانصياع لهذا التوجه الدولي، وإقرارهم بتقديم سلة الدستور على باقي السلل، وتحويل مخرجات سوتشي الروسية الى جنيف تحت مظلة القرار الدولي".
ويتابع: "كما أننا ندرك تماماً ان اخلاء ساحة العمل التفاوضي قد يشكل خطورة أكبر من استمراره، إلا أن هناك حد أدنى يمكن للسوريين المفاوضين أداؤه، ألا وهو منع انتاج دستور جديد في ظل خلل الموازين الحاصل، وأن تعمل باقي المؤسسات في التوازي على خلق مؤسسة سورية ضاغطة، ذات سند جماهيري في الشتات، تجتهد في استثمار أي تغير دولي، يمكن حدوثه (وهذه احتمالية مرتقبة في السنوات القليلة القادمة) لصالح ترجيح كفات الموازين لصالح قضيتنا".
لذلك يرى قسيس: "إن انتصار القضايا المحقة للشعوب هو رهينة اجتهاد وعمل دؤوب حكيم وطويل، ولنا في تاريخ انتصار إرادات الشعوب عِبرُ".
”نداء بوست“: المكونات الدينية والطائفية السورية بقيت خارج الصراع بين قوى الثورة ونظام الاستبداد. برأيك هل موقفهم له علاقة بالخوف من تسنم الاسلام السياسي الحكم في البلاد في حين هم مع نظام سياسي يحفظ لهم حقوق مواطنتهم؟ هل هناك إمكانية واقعية لبناء دولة مدنية ديمقراطية تفصل الديانات عن الدولة؟ أم أن الأمر سيذهب إلى دولة محاصصات طائفية وإثنية ودينية؟
يقول قسيس بشأن موقف المكونات الدينية والطائفية السورية التي لم تنخرط في الثورة: "لقد عمل نظام الاسد خلال عقودٍ من حكمه على نفخ قربة الهواجس الطائفية، بين مجمل المكونات الدينية والمذهبية، تجاه المكون السني ذي الغلبة العددية في سوريا.وعمل عبر طوابيره الغير رسمية، بتقديم نفسه كحامٍ لهذه المكونات الدينية والمذهبية".
ويضيف: "عندما قامت الثورة السورية، اشتغل النظام جاهداً على ترسيخ مذهبيتها، وانتقل الى القول الصريح، بأن المعركة الحالية هي معركته مع قوى الظلام الديني، وأنه الحامي الحقيقي للأقليات وللقيم العلمانية".
ويعتقد قسيس: "أن ادعاءات النظام كان لها ما يساندها من انحرافات حدثت في الثورة، وهي نتيجة طبيعية لعدة عوامل، منها غياب المشروع السياسي لدى قوى المعارضة، إضافة الى غياب مركز القرار الواحد، كما أن حلفاء النظام اصحاب النزعة او الدعاية المذهبية الطائفية، ساهموا في تلوين المعركة طائفياً، مما سهّل لأصحاب الدعوات الطائفية والدينية من جانب الثورة أن يطفوا على سطح مشهد الصراع.
ويرى قسيس: "أن العودة للوراء اليوم، وإلى لحظة انطلاق ثورة سوريي "الشعب السوري واحد" لم يعد بالميسور بعد هذا التراكم الهائل لأخطاء حدثت، ولكنه ليس مستحيلاً ضمن شرط حدوث طفرة نهوض، يقوم بها سوريون مدركون لخصائص أزمتهم، ويحملون رؤية واضحة المعالم لسيرورة نضال، قد تكون طويلة، ولكن مجدية في نهاية الأمر.