انتهت جولة مباحثات جنيف كما كان متوقعاً دون إحراز أي تقدُّم أو حتى اتفاق على عقد جولة جديدة كما حدث في مرات سابقة.
والسؤال الذي يُطرح بقوة ومرارة: ما الضمانات التي دفعت المعارضة للموافقة على حضور هذه الجولة على الرغم من الاتهامات التي وجهت إليها عند الموافقة على المشاركة فيها؟
بالتأكيد لم تكن هناك أي ضمانة حقيقية، وما حاولت به روسيا أن توحي به لم يتجاوز ما قامت به قبل انعقاد جولة المفاوضات السابقة، والهدف كان -وما زال- هو التلويح بتنازُلات يقدمها النظام مقابل إحداث تغيير نوعيّ في موقف الإدارة الأمريكية من النظام، لكن هذه الإدارة حالياً مشغولة بقضايا أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها ما جعل هذه الجولة تنتهي كسابقتها من دون نتائج تُذكر. الموقف الروسي الداعم للنظام منذ الانتفاضة لا يحتاج إلى كبير عناء للتعرف إلى حقيقته، فهو كان -وما زال- المظلة السياسية والعسكرية التي تؤمِّن الحماية له.
مقابل هذه الحقيقة المعروفة تبدو مهمة لجنة المفاوضات وكأنها حضور هذه اللقاءات من أجل الحضور؛ لأنه من غير المعقول أن يقع عاقل في الحفرة الروسية أكثر من مرة وأن يظل يراهن على لا شيء، حتى تحولت جولات المفاوضات إلى نوع من العبث ومضيعة للوقت لا أكثر.
أمام استمرار هذا الفشل وتراكُم الأخطاء التي تتسم بها مواقف قيادات المعارضة وتوجُّهاتها فإن السؤال الملحّ هو لماذا لا تحاول قيادات المعارضة حتى الآن أن تعترف على الأقل بهذه الأخطاء وتعمل على تجاوُزها لاحقاً؟ وقبل كل هذا لماذا لا تحاول هذه القيادات بعد الاتهامات وحملات التشهير التي لم تتوقف من قِبل جماهير الثورة لها أن تقف وقفة نقدية جريئة مع النفس ومع هذه الجماهير وتعترف بكل هذه الأخطاء داعيةً قوى الثورة ورموزها الفاعلة والبعيدة عن الولاءات مهما كان نوعها إلى لقاء لبحث واقع الثورة والمآلات التي انتهت إليها للاتفاق على رؤية جديدة وآليات عمل مختلفة تقوم على تنفيذها قيادات جديدة لكي تستعيد الثورة بعضاً من حيويتها ومصداقيتها والتفاف جماهير الثورة صاحبة المصلحة الحقيقة حولها.
لا شيء يدل حتى الآن على أن شيئاً من هذا وارد في تفكير هذه القيادات التي اعتادت على التبرير والتجاهل و"التطنيش" حتى أصبحت تعيش في عزلة عن حاضنتها الجماهير مكتفية بالدعم الذي تناله من أطراف إقليمية لمواصلة دورها. بعض هذه القيادات التي لم تغادر موقعها منذ سنوات بعيدة تحاول تبرير هذه الانتكاسات وقبول القيام بهذه الأدوار بالقول بأن الثورة لم يعد أمامها خيارات تُذكر في ظل تراجُع الاهتمام الدولي والعربي بها ومع حالة الضعف والتشتت التي تعاني منها الثورة، وكأن مسؤولية كل هذا تقع على طرف آخر وليس على السياسات والأدوار التي لعبتها طوال عشر سنوات حافظت فيها هذه القيادات على مواقعها وأساليب عملها على المستوى السياسي والتنظيمي وعلاقتها بجماهير الثورة التي تركت لمصيرها وتحت رحمة الظروف الدولية والإقليمية وتوحش النظام الأسدي.
إن من الغريب والعجيب أن تظل هذه القيادات لسنوات طويلة تمنح نفسها الحصانة التامة إزاء مطالب الثورة بالتغيير على الرغم من حالة الضعف التي أصبحت تعاني منها الثورة ومن تفاقم الأوضاع الإنسانية والمعاناة القاسية لجماهير الشتات السوري في مناطق الشمال، فهؤلاء هم مَن يدَّعون تمثيلهم وهؤلاء مَن يحتاجون إلى الدعم والعمل المخلِص من أجل التخفيف من قسوة الواقع الذي يَنُوءُون تحت ثِقَله، قبل كل هذا لم يكن لهذه القيادات أن تحتل هذه المواقع لولا هؤلاء والثورة التي تحملوا القتل والجوع والبرد والتشريد من أجلها.
في عام 2013 كنا عائدين من مؤتمر مستقل للمعارضة السورية في القاهرة وكان يجلس إلى جانبي على مقعد الطائرة أحد قادة المعارضة الذي كان وما زال محافظاً على موقعه على الرغم من كل الاتهامات التي طالته حول أكثر من قضية. كان هذا القيادي ذاهباً لحضور اجتماع المجلس الوطني في الدوحة.
فجأة أخرج جهاز الموبايل واتصل بزميل له لا يقل عنه قدرة في الحفاظ على موقعه طالباً منه أن يضع رجليه في ماء بارد وألا يرد على الآخرين مهما انفعلوا وقالوا.
كنت أصغي بدهشة واستغراب إلى ما يقول وأنا عاجز عن استيعاب أن تكون العلاقات داخل هذا المجلس تتم بهذه الطريقة وعلى هذه الدرجة من "التطنيش" وانعدام الجدية والشعور بالمسؤولية تجاه ما يطرح من مواقف وآراء من قبل الأطراف الأخرى داخل هذا المجلس الذي يفترض أنه المسؤول عن قيادة العمل السياسي لهذه الثورة بمكوناتها المختلفة للوصول إلى رؤية عمل مشتركة ترتقي بالعمل السياسي لثورة إلى المستوى الذي يجب أن يكون عليه من خلال الحوار والرؤية النقدية الموضوعية.
هذه السياسات هي التي سادت داخل هيئات ومؤسسات المعارضة؛ لأن رموزها هم الذين ما زالوا يكرِّسون وُجودهم داخل هذه الهيئات والمؤسسات أو يقومون بتبادُل الأدوار والمواقع وكأن الثورة السورية عاجزة عن تقديم البديل أو ملء الفراغ الذي يمكن أن يخلفه انسحابهم من هذه الهيئات.
تعرف هذه القيادات -كما نعرف جميعاً- أن الثورة في واقعها الحالي أصبحت في مهب حسابات إقليمية ودولية وأن السوريين فقدوا القدرة على التأثير فيها أو فرض أنفسهم عليها بوصفهم أصحاب القضية الذين لا يمكن تجاوزهم في أي اتفاق أو حلول مستقبلية.
لكل هذا ومن أجل أن يكون واقعاً وليس رهينة لمصالح واعتبارات خارجية يجب أن لا يبقى قادة المعارضة يضعون أرجلهم في ماء بارد؛ لأنه لم يعد هناك ماء بارد يضعون أرجلهم فيه.
لا بد من الاعتراف أولاً بالمسؤولية عن هذه المآلات المحبطة والبحث عن صيغ جديدة لاختيار قيادة المعارضة وَفْق أُسُس مختلفة ومعايير غير حزبية أو ولائية لأي جهة على الرغم من معرفتنا بأن الثورة وصلت على المستوى الإقليمي والدولي بفعل تلك السياسات الخاطئة إلى حال لا تُحسَد عليه ولا تترك أمامها فرصة الاختيار وإملاء إرادتها كما يجب أن يكون.