قليلة هي الدراسة المقارِنة التي تناولت بالبحث والمقارَنة واقع التَّنوِير في المجتمع السوري بين المَراحِل التاريخية التي سبقت انقلابَ البعث عام 1963 وبين مرحلة ما بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970 التي شكَّلت تحولاً خطيراً في واقع هذا المجتمع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، سواء على صعيد هيمنة الدولة على الفضاء العامّ وهيمنة سلطة الأسد على الدولة والمجتمع والحزب.
تكمن أهمية هذه الدراسات في أنها تفضح الطابع العلماني الذي حاولت دولة الأسد أن تدَّعيه بل وتكشف عن حالة النكوص التي بدأ يشهدها المجتمع على مستوى التنوير والحريات السياسية والاجتماعية والإعلامية، ما يشكل إدانة حقيقية لنظام كان همُّه -وما زال- تكريسَ سلطته من خلال القوة والتحالُفات التي يُنشئها مع الفئات الدينية والاقتصادية النافذة في المجتمع.
ومن أجل إنجاح هذه السياسة عمل النظام على تحجيم دور الطبقة المتوسطة في سورية والتي قادت مشروع التنوير والتحديث في المجتمع سابقاً وصولاً إلى تغييبها وتغيب أي دور فاعل لها في المجتمع والحياة السورية، في الوقت الذي كان يعمل فيه على خلق صيغة جديدة من التحالفات المصلحية التي تقوم على ثنائيات ضدية كتحالف بعض رموز البُرجوازية السورية والسلطة السورية ذات الأصول الريفية المُعدمة أو تحالُف الدولة التي يقودها حزب يتبنى الأفكار العلمانية مع طبقة رجال الدين.
لذلك كان طبيعياً أن يؤدي هذا الواقع الجديد إلى تآكُل الطبقة الوسطى وتَغْيِيب دورها وأن ينعكس ذلك سلباً على واقع التنوير والتحديث في المجتمع السوري. من هنا فإن أي مقارنة بين مرحلة ما قبل انقلاب الأسد ومرحلة ما بعده سوف تفضح كل شعارات التقدم والحداثة والتطوير التي كان يرفعها لأن ما يحدث على أرض الواقع وفي مناحي الحياة السورية المختلفة يفضح هذا الزيف الذي أدمن النظامُ ممارستَهُ.
إن خطورة الدور الذي لعبته الأسدية على مستوى المجتمع والسلطة أنها حوَّلت الحزب والمنظمات الشعبية إلى أدوات لاحتواء المجتمع والسيطرة عليه كما فعلت ذلك تماماً مع طبقة رجال الدين والطبقة التجارية المُتحالِفة معها، لكنها جعلت جهة من هذه الجهات تمارس دَوْراً خاصاً بها لتحقيق هذا الهدف. وهكذا استطاع النظام من خلال هذه التعددية السيطرةَ على المجتمع والتحكُّمَ بكل مَفاصِله مُعتمِداً في ذلك على بِنْيته الأمنية التي كانت كُلفت بإدارة هذه اللعبة وضبط أدوارها والتحكم بآليات عملها، ما جعل هذه الأجهزة تمثل إلى جانب دورها القمعي رأس قمة الفساد في الدولة والمجتمع.
لقد عمل النظام على إعادة ترتيب أوضاع المجتمع بالشكل الذي يحقق له السيطرة التامة عليه، ففي حين كان يسعى للقضاء على الطبقة الوسطى لجأ إلى عسكرة الجامعات من خلال فرض التدريب الجامعي على طلبتها نظراً للدور الخطير الذي يمكن لهم أن يلعبوه في الحياة السياسية التي عمل على احتوائها أولاً من خلال ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية أو عَبْر القمع والاعتقال المتواصليْنِ. لقد أدرك النظام أن هؤلاء الطلبة هم أكثر فئات المجتمع السوري حيويةً ووَعْياً وجُرأةً وهم الفئة التي خرجت في اليوم الأول لانقلابه بمظاهرة مُندِّدة به. حقيقةً لقد استفاد الأسد كثيراً من خبرة الأحزاب الشيوعية في عملية تَأْطِير المجتمع والسيطرة عليه سواء من خلال تنظيم طلائع البعث والشبيبة والطلبة والنقابات والاتحادات التي استخدم بعضها في الدفاع عن سلطته كما حدث في معركته مع تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.
وكما عمل النظام على بناء تحالُفات سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية تعزز سلطته لجأ إلى إقامة تحالُفات خارجية على الرغم من التناقُضات القائمة بينها سياسياً فقد ارتبط بعلاقات قوية مع الروس في الوقت الذي أعلن موافقته على القرار الدولي 224 وفاوض الإسرائيليين بصورة مباشرة عام 1974 وبصورة غير مباشرة عَبْر وزير الخارجية الأمريكية كيسنجر لفصل القوات، وكذلك الأمر قبل التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1975 وفي السنوات التي تلت ذلك أيضاً.
ولم يكن تحالُفه مع نظام الخميني عام 1980 ضد العراق في الوقت الذي كان يقيم فيه علاقات قوية مع دول الخليج بعيداً عن ذلك.
إن قدرة النظام على الجمع بين هذه التناقضات والأدوار المختلفة هي التي أعطته المرونة الكافية للتعامل مع كل الظروف المستجدة التي كانت تحدث لا سيما أن القرار السياسي كان بيد الأسد فهو اللاعب الوحيد الذي كان يحتكر إدارة هذه اللعبة السياسية، ولم يكن الغرب يعنيه أكثر من وجود شخص يمكن التفاهم معه ويملك القدرة على تنفيذ هذه الاتفاقات كما في قضية فصل القوات على الجبهة السورية عام 1974.
إن مزاعم علمانية الدولة ومنجزات التحديث والتطوير التي حققها النظام يمكن فضحها ببساطة من خلال أي مقارنة بسيطة بين المرحلة التي سبقت حكمه وما تلاها وصولاً إلى مرحلة الوريث الابن سواء على المستوى الصناعي أو التعليمي أو الزراعي أو قضية الحريات الاجتماعية أو التنوير أو القوانين المدنية.
حيث شهدت سورية نكوصاً واضحاً في هذه المجالات كافة، بعد أن أصبحت شخصية مثل الشيخ أحمد كفتارو والشيخ محمد رمضان البوطي توازي -إن لم تكن تتقدم على- شخصية الأمين المساعد للحزب وباتت شخصية مثل منيرة القبيسي تتفوق من حيث الأهمية على الاتحاد العامّ النسائي الذي جرى إلغاؤه، أو بالنسبة إلى رموز التنوير من كُتّاب ومفكرين في الوقت الذي كان تجري فيه تصفية الحركة السياسية والثقافية السورية وتحويل ما سُمي بالجبهة الوطنية إلى مجموعة من الدُّمَى التي لا يُهمها سوى الحفاظ على منافعها الشخصية والعائلية.