المصدر: "ميديل إيست آي"
بقلم: ماركو كارنيلوس (دبلوماسي إيطالي سابق، تم تكليفه بالعمل في الصومال وأستراليا والأمم المتحدة).
ترجمة: عبدالحميد فحام
لقد تغيّر التوازن الإستراتيجي بشكل كبير في غضون عامين، حيث فشلت السياسة التي تقودها الولايات المتحدة من خلال فرض العقوبات في إبقاء طهران تحت السيطرة.
وقد اعتبر معهد العلوم والأمن الدولي في أيلول/ سبتمبر أن إيران على بُعد حوالَيْ شهر من امتلاك ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع قنبلة نووية، وهو تقييم مشترك بين المعهد والمسؤولين الأمريكيين بحسَب ما ورد. لكن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية المنتهية ولايته، تامير هايمان، أكّد أن إيران لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه قبل الحصول على قنبلة نووية، مما يعيد عقارب الساعة إلى الوراء عامين، وهو تقييم ردَّده رئيس الموساد السابق يوسي كوهين. وبينما كان المحللون الأمريكيون يركّزون على اليورانيوم عالي التخصيب المطلوب لجهاز نووي، كان نظراؤهم الإسرائيليون يتحدثون عن جِهاز جَاهز للاستخدام، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الوقت.
وفي الوقت نفسه، قال المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، مؤخراً: إنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الاستعداد لعالم "لا يوجد فيه قيود على برنامج طهران النووي". إيران التي لديها ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع قنبلة هي عامل تغيير في اللعبة، لدرجة أنها دفعت رئيسَيْ وزراء إسرائيلييْنِ سابقيْنِ، إيهود باراك وإيهود أولمرت، إلى التساؤل عمّا إذا كان ينبغي على إسرائيل الإفصاح عن وضع برنامجها النووي. وحتى الآن، لم تؤكد إسرائيل أو تُنكر امتلاكها أسلحة نووية.
وقد ادَّعى باراك بأنه مع احتمال عبور إيران لـ "نقطة اللاعودة"، يجب على إسرائيل مراجعة موقفها، في حين شدد أولمرت على أن مثل هذه الخطوة لن تخدم سوى الموقف الإيراني المتمثل في حاجتها إلى أسلحة نووية لردع إسرائيل. الخيار العسكري لا يعتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أن بلاده يجب أن تُغير سياستها في الغموض النووي، وتبقى ملتزمة بسياسة "إحداث الضرر الخفيف -ولكن المستمر- لثني الجمهورية الإسلامية. وقد زار بينيت ومسؤولون إسرائيليون آخرون واشنطن مؤخراً، لكن لا يبدو أنهم حصلوا على الكثير من الولايات المتحدة فيما يتعلق بالخطة "ب" المحتملة – أو وعد بـ "خيار عسكري" موثوق ومتفَق عليه في حالة فشل المحادثات النووية بشكل نهائي. الحقيقة المجردة هي أن قدرة إسرائيل على إملاء السياسة على الولايات المتحدة قد تضاءلت. ففي عام 2015، شعر رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بالثقة الكافية لمخاطبة الكونغرس، وواصل الضغط بنجاح من أجل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني. الآن، يتشبث القادة الإسرائيليون بالدلالات اللفظية، ويحللون كل تصرّف صادر عن كبار المسؤولين الأمريكيين بحثاً عن إشارات على أن السياسة تتغير.
ففي شهر آب/ أغسطس، أخبر بايدن بينيت أنه إذا تم استنفاد جميع الخيارات الدبلوماسية، فإن الولايات المتحدة ستدرس "خيارات أخرى". وفي الأسبوع الماضي، أكّد وزير الخارجية أنطوني بلينكين أنه سيتم النظر في "كل الخيارات". في المعجم الدبلوماسي، فإن مصطلحات مثل "فحص/ النظر في" و"مراعاة" لا تُلزم المُتحدّث سوى بالقليل جداً. وتلعب واشنطن نفس اللعبة حول ما إذا كانت مستعدة للترخيص بضربة عسكرية لإيران كما تلعب إسرائيل اللعبة ذاتها فيما يتعلق بوجود ترسانتها النووية العسكرية. وعلى مدى العقد الماضي، انتقلت الولايات المتحدة وإسرائيل من الإصرار على أن إيران لا تستطيع تخصيب اليورانيوم، إلى رؤية الجمهورية الإسلامية قريبة من العَتَبَة النووية. والجانب المأساوي لهذا الخطأ الفادح هو أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما من تسبَّبَتَا في حصول ذلك لبعضهما بعضاً من خلال: أولاً، الانسحاب من الاتفاق النووي في عام 2018، وثانياً من خلال الضغط المستمر على إدارة ترامب لتحقيق هذه الغاية. مُعضِلة إسرائيل المؤرِّخ الإسرائيلي بيني موريس لخّص بشكل فعّال معضلة إسرائيل: إما أن تدمر المنشآت النووية الإيرانية، أو أنها ستضطر إلى التعايش مع إيران نووية في السنوات القادمة. من غير الواضح ما إذا كانت لدى إسرائيل القدرة على تدمير برنامج إيران النووي حتى لو حصلت على قنابل خارقة للتحصينات من الولايات المتحدة، فإن نتيجة مثل هذا الهجوم ستكون غير مؤكدة، وكذلك رد فعل إيران وحلفائها الإقليميين.
وبغض النظر عن الدلالات، لا يبدو أن واشنطن مستعدة للقيام بهذه المهمة لصالح إسرائيل. كما يتوقف مستقبل إدارة بايدن على مشروعَيْ إنفاق كبيرين عالقين في الكونغرس، وهي لا تُركز على الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. ثم إن بايدن قام بإنهاء الحرب في أفغانستان للتخلص من الضغوط، وهي الحرب التي استمرت لـ "عَقْدين"، لذلك فهو لن يبدأ تدخُّلاً أكثرخطورة في إيران. إنها ليست أفضل إستراتيجية للبقاء في البيت الأبيض بعد عام 2024. وما يثير الفزع حقاً هو أن الكثير من النُقّاد -في واشنطن وتل أبيب وأماكن أخرى- ما زالوا يعتقدون أن العقوبات ستُجبر إيران على الامتثال. لقد سعى بايدن في البداية إلى إبرام اتفاقٍ نوويٍّ معزَّزٍ مصحوبٍ بالتزام إيراني بكبح أنشطتها الإقليمية. ومما لا يثير الدهشة أن طهران رفضت ذلك، وطالبت بدلاً من ذلك بضمانات محددة بشأن امتثال الولايات المتحدة، وهو ما لا تستطيع واشنطن -على ما يبدو- تقديمه. القيادة الإيرانية ليست حريصة على أن تنخدع مرة أخرى بانسحاب أمريكي آخر إذ إن استعادة الصفقة في هذا المنعطف ستكون أمراً معقداً، لكنه ليس مستحيلاً. لكن المشكلة الرئيسية هي أنه مع مرور الوقت، تبدو الصفقة الأصلية أقل جاذبية لكِلا الجانبين. تجاهُل التنبُّؤ يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يعتقدون أن الظروف التي كانت موجودة عندما بدأت المحادثات النووية قبل عَقْد من الزمن لا تزال قائمة حتى اليوم. في ذلك الوقت، كان الافتراض هو أن إيران لم تأت إلى طاولة المفاوضات إلا بسبب ضغوط العقوبات.
في الواقع، كانت إيران مُستعِدَّة للحديث فقط بعد أن تخلت إدارة أوباما عن شرط الإدارة السابقة بأن تعلق طهران تخصيب اليورانيوم قبل أي حوار. ومن المفارقات اليوم أن إيران تطالب الولايات المتحدة بإظهار جديتها في العودة إلى الصفقة، مثل الإفراج عن 10 مليارات دولار من الأصول المجمدة. فقبل عقد من الزمان، ضغطت روسيا والصين على إيران من خلال العقوبات المعتمدة دولياً، والتي كانت فعَّالة. واليوم، تقود الولايات المتحدة معركة العقوبات وحدها، ويتبعها الأوروبيون على مَضَضٍ بسبب العقوبات الثانوية.
لا يبدو أن موسكو وبكين حريصتان على إلقاء طهران على قارعة الطريق. بل على العكس تماماً: انضمت إيران مؤخراً إلى منظمة "شنغهاي" للتعاون ووقعت اتفاقية اقتصادية كبيرة مع الصين. وتعتقد طهران أن بإمكانها تجاوُز العقوبات الأمريكية. حتى الآن، لم تُجْدِ سياسة الضغط الأقصى التي تقودها الولايات المتحدة بل يبدو أن إيران هي التي تمارس الضغط من خلال الاقتراب من العَتَبَة النووية. في كثير من عواصم العالم، تم التنبؤ بشكل خاطئ أو لم يتم التنبؤ على الإطلاق. ففي أقل من عامين، تغيَّر التوازن الإستراتيجي. ومع اقتراب نهاية عهد ترامب في أوائل عام 2020، اغتالت الولايات المتحدة الإستراتيجي الإيراني الرئيسي، قاسم سليماني، فيما عزَّزت اتفاقات "أبراهام" بين إسرائيل وبعض الدول العربية من عزلة إيران.
اليوم، بايدن ينفصل عن غرب آسيا ويركز على المحيطين الهندي والهادئ. فنتنياهو لم يَعُدْ موجوداً في السلطة، وقد تفقد "اتفاقات أبراهام" زخمها بدون المشاركة السعودية، فلقد كانت كل من الرياض وأبو ظبي تُجري محادثات مع إيران، التي يحافظ وُكلاؤها على قبضتهم أو يعززونها في لبنان وسورية واليمن. إن هذه تحولات تكتونية. ربما ينبغي على النظام العالمي الحالي أن يستعد الآنَ لأن تصبح إيران دولةً مُتخطِّيةً العَتَبَة النووية.