محمد جميل خضر – نداء بوست
صدر حديثاً عن دار موزاييك للدراسات والنشر في أسطنبول ورابطة الكتّاب السوريين ديوان "مشاهد يتْلوها البدويّ" للشاعر السوري المقيم في تركيا حسين الضاهر.
يواصل الضاهر في قصائد ديوانه الثاني ما بدأه في ديوانه الأول "مياه صالحة للقتل"(2020م) من تفخيخٍ للدهشة ومحاورة قصيدة النثر عبر ولوج أبوابها المفتوحة على الاحتمالات جميعِها.
يبتعد الضاهر في قصائد الديوان الصادر في 89 صفحة من القطع المتوسّط عن ادّعاء بطولة، أو اقتراح ثورة، حتى إنّه لا يزعم قدرة قصائده على تغيير الواقع من حولنا، أو إسناد ثقب الكون:
"لم أكتب لأحرّك تراب الدهشة في حقل وُجدانك
ولا لأسند جرّة الكون بحرف…
لم تكن كلماتي خيطاً يَرتَقُ ثُقب الأوزون
ولا رصاصة تثقب صدر الطاغية…
ببساطة
أكتب لأصنع كدمات في وجه الفراغ".
في نصوص الديوان المنتقاة على مهل من بين نصوص كثيرة أخرى سبق للضاهر نشرها على صفحته الفيسبوكية يتقمّص الشاعر حيوات: يصير مرّة لسان حال أطفال بلاده، وثانية يبوح بأشجان عاشق، وفي ثالثة يعود الغريب الذي يشتاق إلى حزن أمّه، مرّة رجلاً نحيلاً، وأخرى شابّاً مشاكساً وعاشقَ سيجارةٍ وشايٍ قد يكون، وقد يكون كائناً ليلياً يمضغ الملل.
شخصيات وإحالات وتجلّيات يجمعها جميعَها خيالٌ خَصْب، وصور لا تهدأ ولا تستكين، كأن يقول: "يداي فأس فقدت أسنانها"، أو يقول: "اللجوء بيوت لا تمنح أجسادها للخائفين"، أو: "قلبي المحاصر يحشو جيوبه عناقيد شغف من كروم صدرك"، أو: "الحرب ثوب لا تكفيه حقيبة واحدة لنركب حافلة النسيان ونمضي".
كما تحفل القصائد بقدرة استثنائية على توليد المُدهِش من العادِيّ، وعلى اصطياد قَفْلة تجبّ ما قبلها:
"نملة ثالثة:
في "مرطبان" السكر سنلتقي
مثل جائعين لقبلة
حينها ستنتهي الحكاية على أتفه ما يرام".
أو مثل قفلة: "القصيدة زنزانة ضيّقة لا تتّسع لكلَينا".
في القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها "مشاهد يتلوها البدوي" تحضر الحرب في بلاده، وتداعياتها، ومآلاتها، أكثر من أيّ شيء آخر:
"المشهد الأول:
كنت نائماً حين مرّت الحرب من قريتنا
وأمسكت بأيدي خمسة من أصحابي
أخذتهم خلف حائط الحياة الأخرى".
ثمّ ما يلبث في المشهد الثالث أن ينتقل لما بعد الحرب وما سبّبته من هروب وشتات وكوابيس:
"زوجتي تتململ من صرير أسناني، كلّ ليلة
أمضغ الكوابيس مذ وطأت هنا: أجبتها".
وفي المشهد السابع:
"غالباً ما يسألني المارّة من أيّ مدينة سورية جئت
كي يستعيروا قليلاً من أوجاعي".
يَصعد الضاهر في قصائد ديوانه الجديد أقاصي الوجع السوري، يجعل هُويّته اللغوية غزيرة المرجعيات: من بلدته البعيدة منبج، ومن العالم الافتراضي، ومن يوميات الطريق، ومن تأمّلات الصمت ومن كلّ شيء:
"الأرض حاجزٌ كبير
كالمسافة في مخيَّلة طفل، يشير إلى مقدار حبّه لأمّه بانفراجة ذراعَين".
ولعلّ الكلام يصمت أمام إحدى قصائد الديوان، حيث يتناوب التجلّي فيها مع شجَنٍ عميق:
"مساء الخير
أما زلتِ على قيد اللجوء مثلي؟
إذًا، لو تحملين معي رفات بعض المدن
فقد تعبت
خذي دمشق المكتظّة بالطعنات
خبّئي "بردى" في حمّالة صدركِ
وأخرجيه كلّما داهمكِ الصحو
فلتأخذي بيروت شجرة التفاح
التي أنزلَتنا إلى أرض الخطايا أول مرّة
خذي منبج
أرض الماء والمَحْل
الفتاة الساذجة التي تذهب دائماً برفقة الأوغاد
خذي كلّ البلاد
واتركي لي براعم هذه المدن السعيدة".
تنقّل حسين الضاهر بين منبج حيث ولُد في العام 1988م، وحلب حيث درس، وبيروت حيث عمل، وأخيراً غازي عنتاب حيث حطّت به رِحال لجوئه القسري، هارباً من ويلات الحرب في بلده سوريا.
عِلاوة على ديوانَيْه الصادرَيْن، يكتب الضاهر في غير دوريّة ومنبر.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية