في كتابه " الوجه المظلم لليبرالية " يخلص روبرت هولينغر إلى أن علاجَ جوانبِ القصورِ في الديمقراطية هو مزيدٌ من الديمقراطية، وأن النخبوية أيّاً كان شكلها هي مقتلٌ للديمقراطية، وتشريعٌ للاستبداد وهذا الكلام يعيدنا إلى العصر اليوناني لما كان الفيلسوفُ سقراط يحذِّرُ من مساوئِ الحكم الديمقراطي ويعتبرها حكمَ الغوغاء، وكان يرى أن الحكمَ يجب أن يكونَ للفلاسفة والمفكرين، حتى لا يتحول رأي الغوغاء.
واليوم باتت «الشعبوية» تصم نفسها كخطاب يتصدى لهيمنة «النخب»، بحيثُ تتجه نحو تقديسِ الشعبِ واعتبارِه مستودعَ الحكمة، فالشعبُ هو القائد الملهم ومؤشر الحقيقة عن طريق خطاب التهييج والحماس، وتحقرُ الفكرَ والمعرفة، في مقابل تقديسِ التجربة والممارسة، حيث لا يرى الشعبويون في سلوك المنظّرين أكثرَ من فوقيةٍ وثرثرةٍ فارغة وأقلامٍ متماهيةٍ مع رغبات السلطة في تطويع قناعات الجمهور.
وأصبح الخطاب الشعبوي ينتعش اليوم على يد شخصياتٍ اختارت الطريقَ الأسهلَ لبناءِ المجد والشهرة، وفي السياسة على يد زعماءَ وقادةٍ اختاروا الطريقَ الأسهل للوصول إلى تأييد الجماهير، سواء أكانت البيئةُ السياسيةُ سلطويةً دكتاتوريةً، أو حتى ديمقراطيةً حديثةً فقد بات هذا الخطاب يوفر على السياسيين عناء عرض المشاريع الانتخابية المعقَّدة من خلال القفز على الوعي والعبث بعواطف الجماهير ففي الدولِ السلطوية، تتمظهرُ الشعبوية على شكلِ التصفيق المنتشي لزعيمٍ لا ينتصر، ذلك البطلُ الأوحدُ الذي يجمع الناسَ حوله عَبْر خطاب أيديولوجي (قومي أو ديني مثلاً) غارقٍ بالحماس، يراكمُ فيه جملةً من الانفعالاتِ الخطابيةِ العاطفية التي لا تمتّ للواقع بصلة، ويقلبُ هزائمَه وانتكاساتِه الوشيكةَ إلى مُكتسَبات وطنية. ولعل شخصية الرئيس التونسي قيس سعيد المتقعرة باللغة العربية والمحاكية لأسلوب الخلفاء والسلاطين وعزفه على آلام ومشاكل الناس بدون طرح حلولٍ واضحة لتصفية خصومه السياسيين وتعطيل الحياة السياسية لبناء دكتاتورية سلطوية لنفسه يعبر بشكل واضح على مخاطر الخطاب الشعبوي الساذج .
كما تصلح حقبةُ جمال عبد الناصر في مصرَ لتكون نموذجاً تُشرح به الشعبوية، فقد ألهبت خطاباتُ الرجل الناريةُ ومنها خطبة الاستقالةِ بعد نكسة عام 1967، آلافَ المصريين لينزلوا إلى الشوارع هاتفين: «نحن جنودك يا جمال»، مفتخرينَ بأن يكونوا جنوداً لرجلٍ خرج قبل ساعات من هزيمة ساحقة.
وفي الدول الغربية اليوم والتي تُعتبر دولاً ديمقراطيةً لا يزال يصعد اليمين الشعبوي منذ أعوامٍ بصورة مقلقةٍ، عبر اتخاذِ أسلوبِ الاحتجاجِ كوسيلةٍ للمنافسة السياسية وكسبِ التأييد وقد استغل الشعبويون في الغرب قضايا تمس الخوف والقلق للمواطن الغربي مثل قضيةِ تدفُّقِ اللاجئين كموضوعِ احتجاجٍ رئيس، عبرَ محاكاة مخاوفِ الناس من أن اللاجئين يسرقون وظائفَهم ويستولون على أموالِ الضرائب، وأن أوروبا المسيحية النقية لن تعودَ كذلك بعد أن تغرقَ بأمواجِ المهاجرين الشرقيين والمسلمين ففي الولايات المتحدة أصدر ترامب قراراً بمنعِ سبعِ جنسيات من العالم دخولَ الولايات المتحدة، وشرع ببناء الجدارِ العازل مع المكسيك وباتت السياسةُ الخارجية للولايات المتحدة بعيدةً عن كل مفردات اللغة الدبلوماسيةِ، وحلَ مكانَها لغةُ البزنس والصفقات كما نجح اليمين الشعبوي في جرّ المواطنين البريطانيين للتصويت لصالحِ الخروج من الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى انتخاب بوريس جونسون مرشحِ المحافظين وفي ألمانيا مثلاً يعكُف حزب «البديل» لتكريسِ الإسلام كأيديولوجيا سياسيةٍ متعارضةٍ مع الدستور.
لقد كانت الشعبويةُ تُقدَّمُ دوماً كنقيض للنخبوية، فإن المنطق يقول بأن النخب تحمل على عاتقها التصدي للخطاب والأفكار الشعبوية التي توصل غالبَ الأحيان إلى الاضمحلال الثقافي وإفساد السياسة بدأت هي الأخرى تنحدر نحو الشعبوية وتنجرف مع التيار تحت تحدي القدرة على الوصول إلى الجماهير ومعاناتها من القمع السياسي، وعدم توافر منابر للتواصل مع الجمهور، وطغيانُ الدعاية الشعبوية الجارفةِ للنظم الحاكمة، وطغيانُ سلطة الجمهور غيرِ الرشيدة على صوت العقل وهو ما يوقعها بين خيارين إما الانعزال وضعف التأثير والوصول إلى الجمهور الذي يستحوذ عليه من أباطرة الشعبوية أو الانجرار إلى نفس الأسلوب لتحقيق المنافسة العادلة على الجمهور .
ولم تقف الشعبويةُ الجارفةُ عند حدودِ الفضاء السياسيِ، بل باتت تخترق المجال الغنائي والفني الهابط على برامج باتت تروج للأجساد العارية والمحتوى الهابط. حتى في المجال المعرفي تحول اليتيوباري إلى مصدرٍ مُهِمّ للمعلومة يسبق الكتبَ والأبحاثَ ويتلقف الشبابُ منه المعلومات كما لو أنها مسلماتٌ.
ما نريد قوله أن الشعبويةَ تيارٌ جارف بدأ يتعاظمُ مع موجةِ ما بعد الحداثة، وهذا ما سيؤدي إلى انزياحٍ في دوائرِ التأثير، فحتى تكونَ مؤثراً لا تحتاجُ لكثيرٍ من الشهادات والدراسات التخصصية اليوم يكفي أن تتقنَ الخطابَ الشعبوي وتثيرَ الحماسَ الجمهوري بأي مجالٍ من المجالات وبذلك يمكن أن يتحول الشخص إلى نجم مواقع التواصل الاجتماعي ويعطي لنفسه البت في القضايا الكبرى.
وهنا يأتي السؤال الخطير لماذا استطاع وباء الشعبوية الجوفاء تحقيق هذا الحضور والانتشار هل هو فعلاً فشل النخبة الثقافية والسياسية بلمس جراحِ الجماهير وتعاليها بأبراجها العاجية.
أم أن وسائلَ التواصلِ الاجتماعي هي التي اخترقت وعيَ الجماهير من خلال لغة التسطيح والتعميم أم هو فسادٌ في ذوقِ المتلقي الشعبي وطغيانُ ثقافةِ السمع والصورة بدلاً من القراءة والكتابة والكلمة المثقلة بالمعاني .
لكن مهما يكن فقد بات من الضروري الانتباه الجادّ للمرحلة الشعوبية القادمة واتخاذ التدابير اللازمة في معرفة كيفية مواجهة هذه الموجة القادمة التي قد نغرق بها ونحن لا نجيد السباحة في واقع سائل.
في معادلة الإعلام القائمة على رباعية المرسِل والرسالة والمُرسَل إليه والتغذية الراجعة بات المُرسَل إليه هو الطرف الأهم وفي سبيل تحقيق الوصول وتحقيق التغذية الراجعة لا بأس بتعديل الرسالة والمحتوى حتى لو وصلت لمستوى التفاهة وتحولت الماكينة الإعلامية كلها إلى صناعة التفاهة.
وهنا يشير جيم ميكويغين في كتابه «الشعوبية الثقافية»: "أنه على النخب الخروجُ من هذا المأزِق عَبْر أخذ مقولات الجمهور المحبّبة، وإعادةِ صياغتها ضِمن قوالبَ نخبوية تُوحي بالعمق، عوضاً عن تمحيصِ هذه المقولات وإحداثِ إزاحات في مركزها نحو مزيدٍ من الوعي ويمكن أيضاً تفريغ الأفكار النخبوية بقالب شعبوي يجذب الجمهور إليها" وهكذا يمكن أن تتصالح الثقافة الشعبوية مع النخبوية من خلال خلطة تجمع بين القالب الشعبوي والمضمون الفكري العميق، وتتوقف بذلك المذبحة المريعة التي تُرتكَب اليوم في حق المعنى والحقيقة والمعرفة بهذا الطنين والبغام الذي يُثير الغرائز ولا يبني العقول ويهيج الجانب البهيمي ولا يرقى بالروح.